- موقع عدالة وتحرر
«ربحنا عودة الشارع وخسرنا ما خرجنا لأجله: الضريبة».
ككثيرين غيري -ربما- كنت جالسًا في المقهى حين قرر مواطن ابن حلال ركن سيارته الكيا على الدوار الرابع احتجاجًا على رفع أسعار الوقود. كان الجو العام مشحونًا منذ بداية العام 2018 مع رفع ضريبة المبيعات على 167 سلعة أساسية، ورفع الدعم عن الخبز، وما رافقه من احتجاج نوعي في ساحة العين في مدينة السلط، إلى أن بلغ التأزم ذروته جراء تعديلات قانون الضريبة والإضراب الذي تصدرته النقابات المهنية في الأيام السابقة، فاجتمع بضع مئات من المواطنين هناك، وعلى الرصيف بين مجموعات شبابية من الأحزاب وخارجها تقرر اطلاق احتجاجات على الدوار الرابع في اليوم التالي، وعلى أرصفة أخرى تمت معظم التنسيقات للأيام التالية، نفس الدوار الرابع الذي كان محظورًا الاقتراب منه حد منع حملة غاز العدو احتلال بالقوة من تنفيذ أحد اعتصاماتها عليه قبل بضعة أشهر.
لم نكن كتلة متجانسة حين خرجنا بالآلاف إلى الشوارع في هبة رمضان، كانت هناك فئة ترفض فكرة ضريبة الدخل التصاعدية وتريد للأمور أن تبقى على ما هي عليه، فأن تكون أفقر معناه أن تدفع نسبة أكبر من دخلك إلى خزينة الدولة. هنا يكمن التشوه الضريبي في الأردن باعتماده على ضريبة المبيعات العمياء والتي تتجاوز ثلاثة أضعاف ضريبة الدخل، بينما تكون عادة المعادلة مقلوبة في معظم دول العالم.
وكانت هناك فئة أخرى تمثل جلَّ من خرجوا، حيث كان قانون ضريبة الدخل يعنيها من حيث إلغاء إعفاءات التعليم والصحة وإخضاع شريحة الرواتب ما بين (666) دينار إلى (1000) دينار لضريبة الدخل، بما يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي برفع عدد المشمولين بالضريبة. هذه الفئة/ الطبقة التي أكدت على ضرورة وجود قانون ضريبة دخل تصاعدي سرعان ما حددت قائمة أولوياتها، فطالبت بإعادة دعم الخبز وتخفيض ضريبة المبيعات والضرائب والرسوم على الوقود وعلى فواتير الكهرباء؛ هذه الثلاثة الأخيرة تحديدًا هي التي تثقل كاهل عموم شعبنا الأردني، وليس ضريبة الدخل التي يجب أن تتصاعد أكثر على أصحاب الدخول العالية وعلى البنوك.
حكومة بنوك وليس حكومة احتجاجات
تسمية الحكومة الحالية وإن تلميحًا بحكومة الاحتجاجات، وكأن الاحتجاجات أفرزتها، هو تضليل، فهي أتت لامتصاص غضب الناس وتفريغ الشارع، وأعلنت بوضوح من تمثل منذ البداية حين كان تعديلها الرئيس هو تخفيض الضرائب على البنوك محمية بالقبضة الأمنية الغليظة التي استبقت احتجاجات المئة يوم، ولكن بالنظر إلى الصورة بشكل أشمل فإن الإضراب وهبة رمضان جاءا في وضع كان خلاله العمل العام في الأردن، وفي المنطقة عمومًا، على التنفس الاصطناعي، فأحيت الهبة ما أحيته ونرى أثره لغاية الآن، ثم كانت ثورة السودان والجزائر لتعيد شيئًا ما فقدناه منذ انهزمنا في الموجة الأولى للثورات العربية 2011-2014.
ورغم كثير من المظاهر الكرنفالية والمائعة أحيانًا التي ظهرت في الاحتجاجات، فإن الصفوف الأولى التي كانت تقود المسير من دوار الشميساني إلى الرابع لم تكن كذلك، فاستخدم العنف معها وإن بشكل محدود، أضف إلى ذلك أهمية كسر حاجز الخوف والرهبة من النزول للشارع، والأهم انخراط آلاف الشباب في العمل العام كفاعلين -وإن لفترة محدودة- وكذا الزخم الذي شهدته المحافظات وظهور بؤر احتجاج جديدة. ببساطة أرخوا القبضة الأمنية لأيام فلم يكن ثم لدى السلطة كثير أوراق لتقدمها، استخدمناهم واستخدمونا، وهكذا هي السياسة.
ألا تستفيد إلا من تجربتك
«إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراه الآن هو المهزلة».
حين لا يكون هناك عمل تنظيمي وأطر مؤدلجة تضم العاملين في السياسة فأنت لا تتعلم إلا من تجربتك كفرد أو كمجموعة أفراد، وغالبًا ما تضمحل هذه المجموعات مع الوقت. آليات العمل الحراكي القائمة على فكرة الاحتجاج كوسيلة وحيدة أظهرت عجزها، فأن تعود الحراكات الجديدة لآليات وسقوف ومطالب 2011 بدون أخذ العبرة بأن الشجاعة -بشكلها الاحتجاجي أو البيانات النارية- وحدها ليست كافية لتغير في الواقع، هو عبث.
أنت لا تواجه نادي هواة جمع الطوابع، أنت تواجه سلطة متكسبة من احتكارها لصنع القرار وتمرست عبر عقود بتكسير معارضيها المنظمين والمؤدلجين الذين يعرفون ما الذي يريدونه، فما بالك بحراكات هلامية مشتتة التنظيم والفكر والرؤية؟ أنت لا تستطيع أن تخرج بعشرين أو مئتي أو ألفي شخص لتطالب السلطة بالتنازل طوعًا عن سلطاتها، ستهشمك، ولن يلتف حولك الناس، فرفع شعارات كبيرة يحتاج لحاضنة اجتماعية ممتدة وقيادة منظمة، ودون العمل على خلق تلك الحاضنة والقيادة القادرة على الخروج بمكاسب عبر مفاوضة السلطة وانتزاع ما يمكن انتزاعه حين لا تستطيع الحسم لصالحك هو نوع من الانتحار ونتيجته بعد الفشل هو اليأس.
بين الاقتصادويين وبين انعطاب مفهوم ميزان القوة
ظهرت في الهبة وفي الفترة التي تليها طروحات اقتصادوية، أي أنها تركز على مطالب اقتصادية محدودة كغاية وهدف نهائي مقطوعة من سياقها السياسي، وكيف وصلنا إلى كل هذا التهاوي في اللحظة الحاضرة. ظهرت أيضًا مجموعات لا تعي مفهوم ميزان القوة والواقع، وأنك لا تستطيع تغيير النظام السياسي في بلد أو دستوره أو تحويل شكل نظامه بدون قوة تحملها حاضنة اجتماعية ممتدة، وأن ما نراه من ممارسات السلطة وقوانينها وتعديلاتها الدستورية هو ترجمة لميزان القوة الحالي، ولتغييره يجب تغيير ميزان القوة. معركتنا معركة ساحات ومواقع، وليس أن تلقي كل ما بجعبتك كأهداف نهائية على شكل مطالب للسلطة. بهذا تكون كأنك تطالب سلطة بكافة أذرعها وقوتها وسلاحها أن تحل لك نفسها! هذا غير ممكن، وهذه ليس جذرية وإنما استهلاك ولوك لعلكة العمل السياسي، فأنت حين تخرج بعمل احتجاجي يجب أن يكون فيه مطالب بحجم قوتك، وألا ينحصر تعريف العمل السياسي بالاحتجاج، إذ عليك أن تراكم عوامل القوة حتى تسترد في نهاية المطاف السلطة لعموم الناس وبما يمثل مصالحهم.
الناشطون الموسميون
قبل مدة، وفي مظاهرة كبيرة ومغطاة إعلامياً بشكل جيد، نبهني أحدهم: «انظر إلى فلان وفلان كيف يملؤون الشارع ضجيجًا، هؤلاء لا تراهم إلا في مظاهرات كهذه». العمل السياسي هو عمل يعتمد على الاستمرارية -ولا ينحصر بالاحتجاج الموسمي أو المستمر- وليس شيئًا تتقاعد منه كلما خفتت أضواؤه، وتعاود الظهور فيه متى شئت. نعم، نحن نرى ذلك في ناشطين معدومي الرؤية المشتركة، أو ناشطين موسميين يفتقدون روح الالتزام ويجدون مهمتهم في إلقاء فتيشة كل حين وآخر ولتذهب الأمور بعدها حيث تذهب! وكأن «حيث تذهب» هذه لا تؤثر على مجتمع بأكمله. نراه حتى في ممارسة العمل السياسي حصرًا على تويتر وفيسبوك، وليس استخدامها كأدوات اتصال وإعلام للعمل السياسي. الدوائر حول من يعملون فعلًا بالعمل العام تتشكل مثل فقاعة ضخمة، لكنها في لحظة المواجهة تنفجر وكل هؤلاء ينفضون. أجواء العمل العام مغرية من الخارج حين تلعب على التخوم، حين تكون دومًا قادرًا على التراجع، والانسحاب، والدخول من جديد كلما علت الموجة، وممارسة العمل السياسي كثرثرة واستعراض فقط.
خاتمة
في هبة رمضان ربحنا عودة الشارع وخسرنا ما خرجنا لأجله، أي قوانين الضريبة على الدخل وعلى المبيعات والمحروقات وفواتير الكهرباء، ولكن أن تجبر السلطة على التراجع عن الرفعة الأخيرة للمحروقات والتي كانت القشة/ الشرارة للهبة، وأن تلزها إلى تغيير رئيس وزراء متعنت -رغم ضعف أثره أو انعدامه على تغير السياسات العامة للسلطة- هو ذو دلالة على أن السلطة ترضخ للضغط بمقداره ومقدار قوة من يقف وراءه، فلو كانت القوة كافية للاستمرار لسقط الرئيس وما اجترأوا على إعادة قوانين التشوه الضريبي بشقيها المبيعات والدخل كما هي، فالسلطة حين تنتصر عليك تستشرس أكثر.
على كل حال، أن تنزل عن الشجرة بصورة المنتصر وأنت تعلم ماذا كسبت وماذا خسرت وتحضر لجولة جديدة، فهذا مكسب. وأكبر مكاسبنا منذ الهبة حتى الآن هو إضراب المعلمين وانتصارهم الذي تحاول السلطة استغلال الأزمة الحالية للانقلاب عليه، فأهم من المنجز السياسي أو الاقتصادي اللحظي هو وجود قوة تحميه وتحافظ عليه وتثبته كإطار مرجعي لا يتنازل عنه.
وتجدر الإشارة في ظل ما يحدث في الأزمة الحالية أن هذا حصاد السنين: منظومتك الاقتصادية، وآلية صنع القرار، وقطاعك الصحي، وبنيتك التحتية المتهالكة، والوعي الذي جرفته لعقود. كورونا -رغم أثرها السيء- ليست سبب كل ما يحدث، كورونا هي شماعة لتعليق الاختلالات الممنهجة التي عشناها على مدى عقود، فبعد الوباء ستعود الدول الصناعية لتصنع والزراعية لتزرع وتعود مراكز التكنولوجيا في العالم لعملها، بينما ستزداد الدول التي ليس لدى السلطة فيها خطة سوى بقائها بأي ثمن إمعانًا في القمع لتحافظ على مصالح الحلف الطبقي الذي تمثله، وسيظل هذا حتى يحسم عموم الناس -كادحيهم ومهمشيهم- المعركة.