البطالة الجماعية وسط الوباء هي اتهامٌ للرأسمالية

– موقع عدالة وتحرر

مقال للبروفيسور الماركسي ريتشارد وولف على موقع truthout

تصرخ عناوين الأخبار اليوم علينا حول الصدمة، والألم، والخسارة الناجمة عن انفجارٍ تاريخيٍ للبطالة الرأسمالية. كانت البطالة دائمًا بمثابة اتهامٍ ساخرٍ للرأسمالية. لكن البطالة تهدد الرأسمالية أيضًا. يكافئ هذا النظام أصحاب العمل بأرباحٍ من العمل المأجور للعاملين. ومع ذلك فقد فشلت -أي الرأسمالية- في إبقائهم يعملون وبالتالي تقوّضت أرباحها. الأسوأ من ذلك أنّ هذا الفشل يتكرر بانتظامٍ، وهي ظاهرةٌ تعرف باسم دورة الأعمال.

إنّ دوراتها تكشف عن الرأسمالية باعتبارها غير عقلانيةٍ في جوهرها. يستمرّ العمال العاطلون عن العمل في الاستهلاك، وإن كان ذلك بكمياتٍ مخفضةٍ. إنّهم يتوقّفون عن الإنتاج. من الواضح أنّه سيكون من الأفضل إبقاء العمال ينتجون ما يستمرون في استهلاكه. لا يمكن للرأسمالية أن تفعل ذلك خلال دوراتها المتكررة على الرغم من الجهود التي لا تحصى، بما في ذلك الاقتصاد والسياسات الكينزية منذ الثلاثينيات. تتسبّب الدورات بشكلِ متكررِ في الكثير من المعاناة والخسائر.

شيءٌ آخر غير منطقيٍ في جوهر الرأسمالية يكمن في الرفض العنيد لمعظم الرأسماليين للنظر في -ناهيك عن تطبيق- بديلٍ واضحٍ للبطالة. عندما يبدأ فصل العمال (بسبب انخفاض الطلب، والأتمتة، وما إلى ذلك)، يمكن لأصحاب العمل بدلاً من ذلك الحفاظ على العمل، ولكن عبر تقليل ساعات عمل العمال في الأسبوع. بدلًا من البطالة بنسبة 10 بالمائة، قلل أسبوع العمل الأساسي للجميع من 40 إلى 36 ساعة. يعود جميع العمال إلى منازلهم في الساعة الواحدة مساءً وليس الخامسة مساءً كل يوم جمعة.

من الصعب قياس تكاليف البطالة مقابل ساعات العمل المخفّضة، ومن ثم المقارنة. ما يفسّر على الأرجح تفضيل معظم الرأسماليين للبطالة هي القوة التي تسمح لهم باستغلال العمال. الاحتمال الحقيقي للبطالة يبقي العمال قلقين، ويتنافسون مع بعضهم بعضًا لتجنّب أن يتم فصلهم في نهاية المطاف. في هذه الحالة يسود ما هو منطقيٌ لأصحاب العمل (أقليةٌ اجتماعيةٌ) على الرغم من كونه غير منطقيٍ للعاملين (الأغلبية). حتى في حالة الوباء مثل اليوم حيث يمكن للتأثير الاجتماعي تأمين أماكن عملٍ آمنةٍ، فإنّ استبدال ساعات العمل المخفّضة بالبطالة أمرٌ منطقيٌ ولكنّه يظلّ نادرًا.

آفاق البطالة تصيب العمال وأسرهم بالقلق. ترتبط تجربة البطالة بارتفاع مستويات الاكتئاب، وإدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والمشكلات الزوجية، وإساءة معاملة الأطفال، والأمراض الاجتماعية الأخرى. كما أنّها مرتبطةٌ بانخفاض مستويات احترام الذات بالنسبة للعمال، ومهارات العمل، والمدّخرات الشخصية، والصحة البدنية والعقلية.
البطالة غير مرغوبٍ فيها من قبل كلٍ من العاملين وأرباب العمل، لكنّها تضربهم مرارًا وتكرارًا. يقلق المدافعون عن الرأسمالية دائمًا: العمال العاطلون عن العمل، كضحايا للرأسمالية، يقدمون جمهورًا متقبلًا لنقادها. لقد هدّد تحالف ضحايا الرأسمالية والنقّاد النظام في الماضي، وهم يهددونه الآن مرةً أخرى.

غالبًا ما تكون البطالة جزءًا من حلقةٍ مفرغةٍ في الرأسمالية. يفقد العمال العاطلون عن العمل دخولهم، فيخفّضون استهلاكهم. يُحرم الرأسماليون في إنتاج السلع الاستهلاكية للعمال من طلب السوق والمبيعات، وبالتالي من الأرباح. وردًا على ذلك سرّح هؤلاء الرأسماليون أجزاء من قوتهم العاملة. وهو ما يفاقم البطالة: الحلقة المفرغة.

يمكن للعديد من الظواهر أن تؤدي إلى البطالة في الرأسمالية. يعتمد ما إذا كانت كل حالةٍ أوليةٍ للبطالة تنحدر إلى دوامةٍ أكثر وحشية على الظروف داخل الرأسمالية التي يتمّ تشغيلها. على سبيل المثال لنفترض أنّ أذواق المستهلكين المتغيّرة تعني شراء كميةٍ أقل من السلعة “أ”، وأنّ الرأسماليين يطردون العمال الذين ينتجون السلعة “أ”. قد يؤدي هذا إلى دورةٍ هابطةٍ مفرغةٍ، ولكن ليس إذا تحول المستهلكون على سبيل المثال لشراء المزيد من السلعة ب. تقوم الرأسمالية عندها بتوظيف العمال الذين طردوا من العمل المنتج للسلعة أ لشغل ال وظائف المنتجة للسلعة “ب”.

إنّ البطالة المذهلة التي تتصاعد بسرعةٍ، والتي تولّدها إخفاقات الرأسمالية في الاستعداد لمواجهة جائحة كوفيد-19، تختلف عن مثالنا. لقد تسبّب هذا الأمر بالفعل في دوامةٍ هابطةٍ مفرغةٍ. كان الفيروس هو المحرّك، لكنّ الرأسمالية الضعيفة ردّت على هذا المحرّك بانهيارٍ اقتصاديٍ. في الولايات المتّحدة على وجه الخصوص، تم عمل القليل جدًا في وقتٍ متأخرٍ جدًا لمواجهة البطالة التي تسبّب فيها الوباء، من خلال زيادة التوظيف في أماكن أخرى من النظام. زيادة التوظيف من قبل خدمات التوصيل على سبيل المثال، لم تصل إلى حد استيعاب الملايين الذين تمّ طردهم من المطاعم، والحانات، والمتاجر، والفنادق، وشركات الطيران، وما إلى ذلك. لذا انفجر اللولب النزولي.

لا شيء من هذا كان ضروريًا. كما في الصفقة الجديدة في الثلاثينيات، كان بإمكان الحكومة الأمريكية تنفيذ برنامج وظائفٍ فدراليٍ ضخمٍ. كان يمكن لهذا أن يعيد توظيف الملايين الذين طردهم أصحاب العمل الذين أغلقوا القطاع الخاص. تتضمّن قائمة المهام المفيدة اجتماعيًا لأصحاب الوظائف الفيدرالية هؤلاء: حملاتٍ عبر الولايات المتحدة لإجراء فحوصات كورونا ضخمةٍ في المجتمع؛ تنظيف/تطهير منتظم للأماكن العامة؛ إعادة تنظيم المرافق العامة للحفاظ على التباعد الاجتماعي عند الحاجة؛ دروس تعليمية مستمرّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطلاب المدارس العامة (ولكن أيضًا لعامة الناس الذين يسعون إلى تعلم مهارات جديدة)؛ من أجل “تخضير” الاقتصاد؛ لإنشاء قطاعٍ تعاونيٍ للعمالة في الاقتصاد، وهلم جرا.

ترى الرأسمالية نفسها على أنها نظامٌ اقتصاديٌ “عقلانيٌ”. ومع ذلك فمن غير المنطقي حرمان الموظفين من الوظائف عندما تتوفّر الأدوات والمعدّات والمواد الخام اللازمة لإنتاج سلعٍ وخدماتٍ مفيدةٍ اجتماعيًا. وبالمثل، من غير المنطقي السماح لأماكن العمل بالبقاء في حالة تراكم الصدأ والغبار بدلاً من إعادة تشكيلها، أو إعادة هيكلتها، لتكون آمنةً كمواقع للإنتاج المفيد اجتماعيًا. من غير المنطقي تقويض احتياجات ملايين العاطلين عن العمل من أجل الصحة العقلية والبدنية المرتبطة بالعمل المجدي. وأخيرًا وليس آخرًا من غير المنطقي حرمان المجتمع بأسره من السّلع والخدمات التي يمكن أن ينتجها العمال المعاد توظيفهم. إذا كان القطاع الرأسمالي الخاص إما لا يستطيع أو لن يعيد توظيفهم بأكثر الطرق الاجتماعية فائدةً، عندها يمكن للحكومة أن تفعل ذلك.

إذا كانت اعتبارات الربح تقود الرأسماليين في القطاع الخاص إلى قراراتٍ غير عقلانيةٍ اجتماعياً -مثل فصل ملايين الموظفين- فإنّ الربح لا ينبغي أن يكون المعيار الحاسم للمجتمع. يجب أن نستبدل نظام الربح بمعايير مختلفة، و”نتائج نهائيةٍ” مختلفةٍ تقود قرارات المؤسسة. قد يجمع مثل هذا النظام بشكلٍ مفيدٍ المؤسسات الخاصة والعامة المنظّمة، في كلتا الحالتين كتعاونياتٍ عماليةٍ. وفيها يتّخذ العمال قرارات المؤسسة بطريقةٍ ديمقراطيةٍ: يحصل كل عاملٍ على صوتٍ متساوٍ. علاوةً على ذلك، تشارك مجموعتان أخريان من أصحاب المصلحة، بطريقةٍ متساويةٍ ديموقراطيةٍ، في الوصول إلى تلك القرارات: 1- مستهلكو ناتج كل مؤسسة؛ 2- سكّان المجتمعات التي تعمل فيها كل مؤسسة.
سيستهدف مثل هذا النظام صفات وأمن الوظائف والاستهلاك والإقامة كأهدافٍ رئيسيةٍ -“الأرباح النهائية” إلى جانب ربحيّة المؤسسة.

إنّ اقتراح تعاونيات العمال كأطرٍ لإعادة توظيف الملايين المحرومين من العمل بسبب انهيارات الرأسمالية له هدفٌ خاصٌ. إنّ العمّال في الشركات التعاونيّة العمّالية سوف يرون ويتحرّكون لمواجهة خطر البطالة بشكلٍ أسرع مما يفعله الرأسماليون عادة. توفّر مقاطعة إميليا رومانيا الإيطالية مثالاً مفيدًا للمنطقة التي يتمّ فيها إضفاء الطابع المؤسسي على تعاونيات العمال، مشكّلةً 40 في المائة من الاقتصاد. يعتبر قطاعها التعاوني الكبير مساهمًا رئيسيًا في معدلات البطالة المنخفضة في المنطقة (أقل من إيطاليا وأقل أيضًا من الاتحاد الأوروبي)، ومعدّلات الإنتاجية الأعلى، وأرقام الناتج المحلي الإجمالي البارزة، وما إلى ذلك. إنّ بناء مثل هذا القطاع في الولايات المتّحدة سيمكّن سكّانها من الاختيار الحقيقي للأنظمة الاقتصادية. يمكن للمواطنين أن يلاحظوا ويشتروا ويعملوا داخل مؤسساتٍ منظمةٍ كعمليةٍ تعاونيةٍ، وبالتالي يقارنوها بنظيراتها المنظمة من قبل الرأسماليين. بعد ذلك يمكن اتخاذ خياراتٍ ديمقراطيةٍ بشأن أيّ مزيجٍ من النظامين الاقتصاديين البديلين المطلوبين من قبل سكان الولايات المتحدة.

إنّ التحرّك في مثل هذه الاتجاهات من شأنه أن يقطع شوطًا طويلاً نحو إيجاد وبناء إمكانياتٍ إيجابيةٍ مدفونةٍ الآن تحت الكارثة الكارثية لوباءٍ فيروسيٍ، وانهيارٍ رأسماليٍ كبيرٍ.

عن عدالة وتحرر

نحو عدالة اجتماعية وتحرر وطني

شاهد أيضاً

عن الزراعة في الأردن: تاريخها القريب وواقعها الحالي

– لوحة الفنانة إسراء صمادي منذ حكم الدولة العثمانية وحتى يومنا هذا لم يتطور قطاع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *