– موقع عدالة وتحرر
مقال المناضل والأكاديمي الماركسي الأيرلندي جون مولينو على موقع rebelnews.
يفسّر “منبهو الزيادة السكانيّة” سبب كوفيد-19 وأزمة المناخ بـ “الاكتظاظ السكاني”. وكما يوضّح جون مولينو، فإنّ هذه الأسطورة لا تنهار في وجه الأدلة حسب، بل إنّها تعدّ خطيرةً للغاية في أيدي العنصريين اليمينيين.
الفكرة القائلة بأنّ العالم أصبح -أو سيصبح قريبًا- “مكتظًا بالسكان” كانت موجودةً منذ فترةٍ طويلة. يمكن إرجاعها إلى توماس مالثوس ومقاله في عام 1798 عن مبدأ السكان الذي ندّد به ماركس وإنجلز باعتباره “افتراء على الجنس البشري”. كانت أكثر مفاهيمها الحديثة شهرةً في كتاب بول إرليخ الأكثر مبيعًا “القنبلة السكانية” في عام 1968، وكانت دائمًا أحد مكونات أيديولوجية الجناح الأيمن للحركة البيئية.
لدى مالثوس، ولاحقًا في ستينيات القرن العشرين، كان الادّعاء بشكلٍ رئيسيٍ أنّ الاكتظاظ السكانيّ سبب في فقر العالم، حيث كان النمو السكانيّ يفوق إنتاج الغذاء أو أنّه سيفوقه حتمًا. لكنّ هذه الحجّة تم دحضها بشكلٍ شاملٍ بفعل الأحداث -حيث استمرّ عدد سكان العالم في الارتفاع، ولكن إنتاج الغذاء ارتفع بشكلٍ أسرع- مما جعل مصداقيتها محل شكٍ إلى حدٍ كبير.
في الوقت الحاضر مع تغيّرات المناخ والأزمات الأخرى العديدة من الأنثروبوسين، من تجفيف المحيطات إلى كوفيد-19، تعود حجّة الزيادة السكّانيّة إلى الواجهة.
من أكثر أمارات هذه الحجة وضوحًا فيلم مايكل مور “كوكب البشر”، الذي يهاجم قضية الطاقة المتجدّدة ويدعم التحكّم في السكان بدلاً من ذلك. مثالٌ آخر هو “المؤسسة الخيرية” (في الواقع هي مجموعة ضغط) المسمّاة “المسائل السكانيّة” برئاسة ديفيد أتينبورو، والحجّة ترفع رأسها حتى في أجزاءٍ من اليسار. حتى الميم سيئ السمعة: “البشر هم الفيروس، كوفيد هو العلاج” ينبع من الاكتظاظ السكانيّ كسببٍ جذريٍ لـ كوفيد-19.
الفكرة التي تقول بأنّ الزيادة السكانية، أو النمو السكاني، يجب أن يُنظر إليها إمّا على أنّها دافعٌ للتغيير المناخي، أو على أنّها نوعٌ من “مشكلةٍ” عامةٍ، هي فكرةٌ خاطئة. إنّها أداةٌ في يد اليمين، واعتماد اليسار عليها يجعله مفرغًا.
تغيّر المناخ والنمو السكاني
إنّ الفكرة التي تقول بأن تغيّر المناخ ناتجٌ عن النمو السكاني هو اختلافٌ بسيطٌ عن الفكرة التي تتبنّاها المؤسسة السياسية القائلة بأنّ السبب الرئيسي لتغيّر المناخ هو سلوك الناس العاديين الذي يحتاج إلى “تعديلٍ” بواسطة ضرائب الكربون، على سبيل المثال. هذا ببساطةٍ غير صحيح.
نحن نعلم على وجه التحديد ما هي أسباب تغيّر المناخ: الانبعاثات نحو الغلاف الجوي لغازات الدفيئة نتيجة حرق الوقود الأحفوري، وإطلاق غاز الميثان من قطعان الحيوانات، بالإضافة إلى ذوبان الجليد.
تظهر نظرةٌ خاطفة على الكثافة السكانية العالمية وبصمة الكربون للفرد أن لا رابط بين الاثنين.
تعدّ كندا وأستراليا وأيسلندا وغرينلاند من بين أقل البلدان كثافةً سكانيةً على وجه الأرض، ولكنّها جميعًا لديها بصمةٌ كربونيّةٌ عاليةٌ جدًا للفرد (16.9 ، 16.8 ، 12.1 ، 9.4 على التوالي، مقاسةً بالطن المتري سنويًا) مقارنةً بمتوسطٍ عالميٍ يبلغ حوالي 5.0.
من بين الدول التي لديها أعلى انبعاثات الكربون للفرد: البحرين (21.8)، الكويت (23.9)، المملكة العربية السعودية (18.6)، الإمارات (22.4) وقطر (38.2). هذه البلدان ليست ذات كثافة سكانيةٍ عاليةٍ: يوجد في الكويت حوالي 200 شخص لكل كيلومتر مربع، والإمارات 99، والمملكة العربية السعودية 15 فقط. لا توجد جوائز لمن يحزر سبب ارتفاع انبعاثات الكربون بشكل كبيرٍ لديها أكثر من غيرها، وبالطبع ليس لهذه الأسباب علاقةٌ بعدد السكان.
تعدّ أيرلندا مثالًا جيدًا أيضًا، حيث يتجاوز متوسط انبعاثات الفرد من البصمة الكربونية (7.1). وكما اعترف ليو فارادكار “من الواضح أن انبعاثات المناخ وغازات الدفيئة مجالٌ نتخلّف فيه”. ومع ذلك تتمتّع أيرلندا بكثافةٍ سكانيّةٍ منخفضةٍ نسبيًا، والأهمّ من ذلك أنّ عدد سكانها أقلّ مما كان عليه قبل المجاعة 1845-1849، عندما كانت بصمة الكربون فيها تقريبًا صفر.
باختصار، لا علاقة لمستوى انبعاثات الكربون وتنوعها بحجم السكان، لكن له علاقة بمستوى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية لبلد ما، والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في العالم نتيجة لذلك.
آثار البصمة الكربونية غير متساوية بشكلٍ صارخٍ داخل البلدان أيضًا. ليست الأحياء الفقيرة في البرازيل أو هنود الأمازون هي التي تنتج بصمةً بمقدار 2.4، ولا السكان الأصليون في أستراليا هم المسؤولون عن ارتفاعها البالغ 16.8.
إنّ سلوك الشركات الكبرى، وخاصةً صناعات الوقود الأحفوري، وشركات السيارات، والمصانع الهندسية، وشركات الطيران، وأساطيل الشاحنات، وشركات اللحوم العملاقة، ومزارع إنتاج الألبان، والسياسيين المرتبطين بها، هم الذين يتحمّلون المسؤولية الرئيسية.
70% من غازات الدفيئة المنبعثة منذ عام 1988 تمّ إنتاجها بواسطة 100 شركةٍ متعدّدة الجنسيات فقط. إذا توقّف 750 مليون من سكان الصين والهند وأفريقيا الأكثر فقرًا عن إنتاج الكربون تمامًا، في حين استمرت إكسون موبيل وبريتيش بتروليوم وتويوتا وفولغكسفاغن.. إلخ، في العمل كالمعتاد، فسيكون التقليل من انبعاثات الكربون العالمية ضئيلًا.
لذلك فإنّ الاستجابة لتحدي تغيّر المناخ مع أي نوعٍ من التركيز على النمو السكاني، أو التحكّم في السكان، سيكون بمثابة تمريرٍ للمسؤولية إلى ناحيةٍ ليست ذات ارتباط، والسماح بذلك للشركات والـ1٪ والحكومات الرأسمالية، بالخروج من المأزق تمامًا.
السكّان في المنظور
هذا لا ينطبق فقط على تغيّر المناخ، ولكن على الفقر، والبطالة، والإسكان، والتشرّد، والتعليم، والصحة وكل قضيةٍ اجتماعيةٍ أخرى. إنّ أي فكرةٍ تقول بأنّ المشاكل والأزمات في كل أو أيٍ من هذه المجالات هي بسبب وجود الكثير من الناس، هي ورقةٌ في أيدي الحكومات الرأسمالية التي تلعب بها في كل مكان.
يستجيب المدافعون عن السيطرة على السكان لهذا الأمر عن طريق التخويف من الأرقام. على واجهة موقع المسائل السكانية نجد هذا البيان:
استغرق الأمر البشريّة 200 ألف سنة لتصل إلى مليار، و200 سنةٍ فقط لتصل إلى سبعة مليارات. ما زلنا نضيف 80 مليونًا إضافيًا كل عامٍ، ونتّجه نحو 10 مليارات بحلول منتصف القرن.
ولكن إذا كان عدد السكان يرتفع بمقدار 80 مليون نسمةٍ سنويًا، فهذا يعني أنّ معدّل النموّ السكانيّ يتباطأ بالفعل. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإنّ الزيادة السكانيّة السنوية ستزيد. في عام 1973 كان عدد سكان العالم حوالي 3.9 مليار نسمة. اليوم هو 7.7 مليار نسمة. 70 مليون إلى 7.7 مليار، هي نسبة أصغر بكثير منها إلى 3.9 مليار.
بلغ معدّل النموّ السكانيّ العالميّ 2.1٪ سنويًا عام 1970، والآن يبلغ 1.2٪. بعبارةٍ أخرى، إنّ معدل النمو يتباطأ، وإذا استمرّ الاتجاه الحاليّ فسيستقر السكان بحلول نهاية القرن، ويمكن أن ينخفض بعد ذلك.
ولماذا يجب أن يكون 80 مليونًا سنويًا أو 10 مليارات بحلول منتصف القرن مشكلةً فعليّةً؟ موقع “مسائل السكان”، والمعنيّون الآخرون بقضايا الزيادة السكانيّة، يفترضون أنها ستكون مشكلةً فعليةً، ولكنهم لا يقدمون أي سببٍ مقنعٍ.
ترتكز هذه الفرضيّة على الفكرة الخاطئة القائلة بأنّ المزيد من الناس هو أمرٌ سيءٌ، وبالتالي يجب أن يكون الكثير من الناس أمرًا سيئًا للغاية؛ لهذا السبب، ماركس وصف مالثوس بأنّه محض مفترٍ على الجنس البشري.
في الواقع هذا ينطوي على نظرةٍ مقلوبةٍ تمامًا للتاريخ البشري والتنمية البشريّة. فيما يلي لمحةٌ عن نمو عدد سكان العالم على مدى الألف عامٍ الماضية:
1000م: 190 مليون.
1500م: 450 مليون.
1900م: 1600 مليون.
1950م: 2،500 مليون.
2000م: 6،143 مليون.
إذا كان المنبّهون من الزيادة السكانيّة على حقٍ، فإنّ هذا التاريخ سيكون كارثةً لا هوادة فيها، حيث يصبح النّاس أكثر فأكثر فقرًا من بعض العصور الذهبية الخياليّة للازدهار منذ ألف عام. في الواقع العكس هو الصحيح.
وفيما يلي أرقام نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي باستخدام مقياس الدولار الدولي لعام 1990، والذي استخدمه أنغوس ماديسون للمقارنات التاريخية والدولية:
1000م: 436 دولار.
1500م: 566 دولار.
1900م: 1525 دولار.
1950م: 2111 دولار.
2001م: 6049 دولار.
علاوةً على ذلك، ارتفعت مستويات المعيشة في المتوسّط، لأنّ النّاس لديهم أطفالٌ أقل. ويرجع ارتفاع عدد السكان إلى انخفاض معدل الوفيات، بدلاً من ارتفاع معدل المواليد. لكنّ النمو اللامتناهي الذي “لا يمكن تحمّله” سيبكيه منبّهو الزيادة السكانيّة. بالطبع إنّ التوسّع اللامتناهي لأي شيءٍ غير مستدام ومستحيل، لكنه لن يحدث أيضًا.
مثال هونغ كونغ مفيدٌ هنا، حيث كان عدد سكانه 7450 في عام 1841. وبحلول عام 1851 كان 32983. بالنظر إلى هونغ كونغ في تلك الأيّام، كان من المؤكد أنه سيبدو “واضحًا” أنّ هذه الجزيرة الصغيرة لا يمكنها “دعم” أو “تحمّل” عدد سكانٍ يبلغ 7.4 مليون نسمةٍ(1) كما تفعل اليوم. من الواضح أنهم سيجوعون، أو يأكلون بعضهم بعضًا قبل وقتٍ طويلٍ من الوصول إلى هذا الرقم الذي لا يمكن تصوره!
ومع ذلك فهي واحدةٌ من أكثر المناطق كثافةً سكانيةً على وجه الأرض اليوم ، ولديها أيضًا بعضٌ من أعلى مستويات المعيشة أكثر من أي مكانٍ في آسيا. لقد “حافظت” على حركةٍ ديمقراطيةٍ جماهيريةٍ ضخمةٍ ضد الديكتاتورية القويّة للغاية في بكين. وهذا يجب أن يذكّرنا بالسبب الرئيسي وراء كون الزيادة في عدد سكان المدن الكبرى في جنوب العالم أمرٌ يجب أن يرحّب به الاشتراكيون بالفعل. إنها تنتج من ساو باولو إلى سيؤول، طبقةً عاملةً دوليةً ذات حجمٍ وقوة كامنة لم يسبق لهما مثيل.
استنتاجات عملية؟
إذا كان من المسلّم به أنّ حجم أو نموّ عدد سكان العالم هو “مشكلةٌ” -وهو أمرٌ لا ينبغي أن يكون بالتأكيد- فما الذي يجب فعله حيال ذلك؟ يمكن لليسار عمليًا أن يفعل القليل، أو لا يفعل شيئًا سوى الحملات من أجل الحقوق الإنجابية للمرأة، وهو ما نقوم به على أي حالٍ دون أي حديثٍ عن السيطرة على السكان. لكن ماذا عن اليمين؟
لن يكون هناك نقصٌ في القوى اليمينيّة المتحمّسة للسير عبر هذا الباب الأيديولوجي الذي كنّا سنفتحه لهم.
في المقام الأول ستكون هناك أنظمةٌ ديكتاتوريةٌ واستبداديةٌ أكثر من سعيدةٍ لفرض سيطرة الدولة على القضيّة السكانيّة. هذا ليس افتراضيًا. ما هو العذر الأفضل الذي يمكن أن نعطيه لحكومة محافظين (أو حكومةٌ نيوليبراليةٌ مع واقٍ من السياسات الخضراء) لخفض إعانة الأطفال؟
لقد رأينا بالفعل التعقيم الإجباريّ للهند في عهد سانجاي غاندي في السبعينيات، وأهوال سياسة الطفل الواحد في الصين، وسياسة المحافظين المدانة على نطاقٍ واسعٍ في تقديم إعانة الأطفال لطفلين فقط.
ثم هناك مسألةٌ صغيرة سيئة متعلقةٌ بالعنصريّة. إنّ العديد من دعاة السيطرة على السكان سوف يرفضون بشدةٍ -ولا شك بصدقٍ- أي دافعٍ عنصريٍ. لكنّها ليست مسألة نيةٍ شخصيةٍ، بل مسألة المنطق السياسي للأفكار.
إذا كان عدد سكان العالم كبيرًا جدًا، ويجب تقييد النمو الإضافي، من هم الأشخاص الذين يجب الحد من تكاثرهم المفرط؟ نحن نعلم جيدًا أنه لن يتمّ ترشيح الأوروبيين البيض والأمريكيين الشماليين.
علاوةً على ذلك، كان هناك منذ فترةٍ طويلةٍ ميلٌ بين المعنيين بقضايا الزيادة السكانيّة إلى عرض صورٍ “مخيفةٍ” لملايين مومباي أو لاغوس المزدحمة. وإذا كان الكثير من النّاس في العالم يمثّلون مشكلةً، فماذا عن الكثير من النّاس في بلدٍ معينٍ؟ على الرغم من إدراج الليبرالي ديفيد أتينبوره كراعٍ لموقع المسائل السكانيّة المذكور أعلاه، فإنّه يكتب:
باعتبارها دولة جزيرية ذات مساحةٍ وموارد طبيعيةٍ محدودةٍ ، تتعرّض المملكة المتّحدة لضغوطٍ سكانيّةٍ هائلةٍ.
المملكة المتّحدة هي واحدةٌ من أكثر البلدان استنزافًا للطبيعة في العالم، ومع عدم وجود نهايةٍ للنموّ السكانيّ في الأفق، سيستمر الضغط على الحياة البريّة والإسكان والخدمات العامة والموارد في النمو.
إنّ الخطوة من “نحتاج إلى إجراء نقاشٍ حول السكان” إلى “نحتاج إلى إجراء نقاشٍ حول الهجرة” هي خطوةٌ قصيرةٌ، ونحن نعلم إلى أين تقود هذه الخطوة.
لكل هذه الأسباب العلمية والتاريخية والسياسية، سيكون من الخطأ أن نفهم فكرة أنّ النمو السكاني هو سبب أيٍ من الأزمات الكبرى التي تجتاح الرأسمالية في انحلالها.
(1) ذكر في المقال الأصليّ خطأً أنّ عدد سكان هونغ كونغ هو 7.4 مليار نسمة، والصحيح أنّ العدد هو 7.4 مليون.