– موقع عدالة وتحرر
«إن هذا البحث، في أحسن حالاته، قد شكَّل مفتاحًا يسهّل عملية ولوج التاريخ الشعبي الوطني الأردني الذي جرى التعتيم عليه عبر عقود سبعة ماضية، لتحقيق حزمة أهداف غير بريئة».
– عصام السعدي.
لم يقدم عصام السعدي في كتابه هذا سردًا تاريخيًا لنشوء نضال الحركة الوطنية الأردنية وتطورها حسب، بل قام بتسليط الضوء على هوية هذه الحركة وتناقضاتها (أي القوى التي تناقضها وتصنع منها بالتالي هوية ضد) التي صقلت دورها في التاريخ الوطني، في مقابل تأريخ اعتدناه نخبويًا ناطقًا باسم السلطة وما يدور في فلكها من قوى رجعية متواطئة مع هذه السلطة!
تناقضات الحركة الوطنية الأردنية
يعرّفنا عصام السعدي في هذا الكتاب على القوى التي شكّلت وعي الحركة الوطنية الأردنية، من خلال نضال الحركة ضد تغول هذه القوى على الكيان الوطني الناشىء في شرق الأردن، خاصة أن تأسيس الإمارة أتى في حقبة عاصفة أسهمت في تغيير وجه العالم، وشهدت تحولًا من الأنماط الكولونيالية التقليدية صوب الأنماط ما بعد الكولونيالية، ما عنى تشكل هذا الكيان الوليد بناء على تفاعل بين معطيات مهيمنة مفروضة من الخارج ومعطيات داخلية في طور التكون، وهو ما يعبر عنه السعدي في وصفه لحقبة ما قبل نشوء الإمارة قائلًا: «فمجتمع المنطقة الذي جرى ترسيم الدولة/ التجربة السياسية على خارطته الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية كان وقتذاك شبه إقطاعي/ بدوي، تسوده أنماط اقتصادية متعددة، تقع بين نمط الإنتاج المشاعي ونمط الإنتاج السلعي البسيط، ولم يشكل وحدة جغرافية أو اجتماعية/ اقتصادية من قبل»، وهو هنا يتقاطع مع ما يقول به جوزيف مسعد في كتابه «آثار استعمارية» وإن كان بصياغة أقل فجاجة.
هذا النشوء حتّم تناقض الحركة الوطنية الأردنية مع المشروع الصهيوني، خاصة أن تأسيس الإمارة جاء بعد أربعة أعوام من وعد بلفور، وقد شمل هذا الوعد شرق الأردن كوطن قومي لليهود هو الآخر إلى جانب فلسطين، قبل أن تعدله إدارة الانتداب الكولونيالي البريطانية، وتخرج شرقي الأردن من الوعد بغية إنشاء كيان مستقل عن فلسطين كترضية للهاشميين الذين كانوا حانقين من تنكر بريطانيا لوعودها معهم.
يسرد السعدي العديد من الوقائع التي تمحورت حول نضال الحركة ضد تغلغل المشروع الصهيوني في شرق الأردن، ناهيك عن النضالات التي خاضتها الحركة ضد هذا المشروع الكولونيالي الاستيطاني في فلسطين، سواء عبر القتال في ثورة 36-39 أو عبر ما سماه السعدي «الثورة الأردنية 37-39»، بالإضافة إلى سلسلة من المؤتمرات والبيانات التي كانت تصدر عن ممثلي الحركة في إطار التصدي للمشروع الصهيوني، مع فضح ممارسات القوى المحافظة (الإقطاعية) المتحالفة مع النظام الحاكم للإمارة الذي حاول جعلها مسرحًا للنفوذ الصهيوني.
هذا النظام الحاكم القادم من الحجاز، والذي منيت آماله بخيبة عظمى نتيجة اقتطاع سوريا لفائدة الانتداب الفرنسي، كان هو المقلب الآخر لتناقضات الحركة الوطنية الأردنية، بحكم ارتباطاته الكولونيالية التي جعلت منه أشبه ما يكون بنظام كمبرادوري بحت، عبر دوره في التعطيل من تطور البلد الناشىء خدمة للمصالح الكولونيالية، ناهيك عن إعاقته للتنمية الوطنية في سبيل أحلام التوسع التي كانت تراود الأمير عبد الله، الذي كان يرى نفسه ملكًا للعرب جميعهم وليس أميرًا لهذه القطعة من بلاد الشام حسب. من هنا انطلقت نضالات الحركة الوطنية الأردنية، عبر بعض حركات التمرد على غرار ثورة العدوان وتمرد كليب الشريدة وغيرها، بالإضافة لعقد المؤتمرات الوطنية التي أثمرت ظهور أحزاب سياسية حاولت الصمود في وجه هيمنة النظام الحاكم، عبر تبني خطاب وطني أردني مجابه لخطاب مائع يتنكر لهذا الوطن الناشىء من قبل النظام وبعض المنشقين عن حزب الاستقلال السوري.
لم تكن مقاومة الحركة الوطنية للاستعمار البريطاني بذات الدرجة التي كانت عليها مقاومتها للمشروع الصهيوني أو حتى للنظام الحاكم، بحكم عدم وجود أي تكافؤ في ميزان القوى بين الطرفين، لا بل إن هذا الاستعمار قد أسهم في كسر شوكة الحركة في كثير من الأحيان، من خلال دعمه لنقيضي الحركة الآخرين -الصهاينة والنظام- في مواجهتها. قمع ثورة العدوان مثالًا، ومشروع شركة كهرباء فلسطين لبنحاس روتنبيرغ مثالًا آخر من أمثلة عديدة تدلل على سطوة الاستعمار البريطاني وهيمنته على الإمارة.
تطور الحركة أو إعاقة تطورها!
يقول السعدي: «واللافت للانتباه أن الصيغ الاجتماعية القائمة آنذاك، عكست نفسها على الخريطة الحزبية، وعكست بالتالي سلبياتها، وهو ما يؤكد أن الأحزاب السياسية في أغلبها−في تلك المرحلة− كانت تعبّر عن توجهات وأهداف القمم العشائرية في كثير من الأحيان».
لم تكن تناقضات الحركة هي المعيق الأوحد أمام تطورها، فهذه الإعاقة كانت في صميم الأطر الاجتماعية التي عبّرت الحركة عن مصالحها، وهو شيء مفهوم تمامًا في تلك الحقبة التي مثلت الطور الأول لتشكل الدولة، ولكن المستغرب هو بقاء هذه الصيغ البدائية -انتماءات ما قبل الدولة- ذات حظوة في خطاب عمل الحركة وإطارها حتى مراحل متقدمة من عمر الدولة، لا بل ربما حتى يومنا هذا!
إعاقة تطور الحركة الذي أسهم النظام الحاكم فيه، متغافلًا دورها في تطور البلد (ربما بالنظر إلى هويته الكمبرادورية يبدو هذا الأمر مفهومًا) تم عبر القمع والقوانين العرفية التي أسهمت في إنتاج نخبة حاكمة احتكرت السياسة قبل أن تبتذلها، وتوظفها بالتالي لخدمة المصالح الما بعد كولونيالية للرعاة الإمبرياليين للنظام الحاكم، مما انعكس على نضالات الحركة وقلص من تأثيرها على الساحة الوطنية، خصوصًا بعد انفضاض العديد من القوى الوطنية المشكلة للحركة عن النضال المحلي، عبر استدعاء نضالات قومية وأممية كانت قد راجت في حقبة تشكل الدولة، وإرث هويتها السورية الذي يتناوله السعدي بشكل موسع في أحد فصول الكتاب.
كتاب عصام السعدي هذا -بما يضمه من وثائق ومراجع تاريخية هامة- يشكل دراسة معتبرة لتاريخ الحركة الوطنية الأردنية، وإن كان يعاني بعض العيوب في لغته التي لم تكن بمستوى المضمون المقدم، ناهيك عن بعض المغالطات على غرار الادعاء بعدم حدوث تغير على حدود الكيان الأردني، رغم ضم العقبة ومعان إلى الإمارة عام 1925 والذي يناقض هذا الادعاء تمامًا، إضافة إلى عدم تناوله لحقبة الأربعينيات -التي تعد مرحلة تاريخية من المفترض أن تشملها الدراسة- بنفس المقدار الذي تناول فيه العشرينيات والثلاثينيات.