– موقع عدالة وتحرر
ربما أن أهم السبل المتاحة أمام الأردن حاليًا هو إعادة تفعيل قطاع الزراعة، ودعمه دعمًا شاملًا يساعد في تحقيق اكتفاء ذاتي في بعض المنتجات الزراعية الاستراتيجية كالحبوب والخضراوات. لكن هذا يحتاج إلى إرادة سياسية حرة، ترفض الواقع الحالي وتبني على ما كان عليه الوضع سابقًا، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فقد وصل الأردن إلى مرحلة اكتفاء من القمح وقام بتصديره إلى مصر والسعودية عام ١٩٦٤، وحسب الإحصائيات انحدرت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح من مليوني دونم بداية السبعين إلى أقل من ٣٠٠ ألف دونم عام ٢٠١٦.
إلا أن هناك عدة عوامل ساهمت في تجريف قطاع الزراعة، منها التخطيط العشوائي للمدن وبنائها على أراض زراعية خصبة، وإغراق السوق المحلي بالسلع الزراعية المستوردة، وتوظيف أبناء المزارعين في الجيش والأمن ومؤسسات الحكومة، وتدشين مشاريع تشجيع الإسكان بعد غلاء النفط عام ١٩٧٣، وانصراف ثلث عاملي الأردن إلى الخليج في الفترة ذاتها من ١٩٧٥-١٩٨٥ تقريبًا. لم تكن الدولة جادة في تخطيطها للمدن، بل إن مشروع الإسكان الذي أسس له بنك الإسكان وحمل المواطنين بالديون، كان يستهدف المناطق الزراعية في الأرياف، وحول الاقتصاد المحلي من اقتصاد كان يتجه نحو تحقيق مزيد من الاعتماد على الذات من خلال قطاعي الزراعة والصناعة (استراتيجية التصنيع لاستبدال الواردات) إلى اقتصاد قائم على فقاعات الإسكان، والخدمات، والمضاربات المالية، والمساعدات الخارجية، إضافة إلى القروض الداخلية والخارجية.
علاوة على ذلك، أدى إغراق السوق الأردني بالقمح الأمريكي المدعوم وبالأرز، إلى تدمير زراعة القمح تحديدًا. كان هذا القمح أرخص من القمح المحلي، كما أن الأرز لم يكن يومًا من الأيام وجبة في مجتمعاتنا، غير أن موازين القوى الإمبريالية فرضته علينا فرضًا وعلى الدول التابعة لها. وبدلًا من أن ترفض الدولة استيراد هاتين السلعتين دعمًا للإنتاج الوطني، انصاعت لسيدها الأمريكي وتخلت عن أهم سلعة استراتيجية لأي بلد وهي القمح الذي نصنع منه خبزنا على صاج الحطب وفي فرن التنور. ترافق ذلك كله مع الترويج للخبز المصنوع من الطحين الأمريكي المستورد، فصرنا نسمع مثلًا يبجل “خبز السوق اللذيذ” ومثلًا آخر يسخر من البرغل واستبداله بالأرز: العز للرز والبرغل شنق حاله.
والآن -منذ الأزمة المالية المزدوجة عام ١٩٨٨ حتى يومنا هذا- بات الأردن زبونًا رئيسًا لدى صندوق النقد والبنك الدوليين، وعلى هذا الزبون النجيب أن يترك للصندوق أمر اقتصاده، وأن ينصاع لبرامج التصحيح التي يفرضها لقاء ما يعطيه لنا من قروض، وليس خافيًا على أحد أن إلغاء كافة أشكال الدعم الحكومي لأي اقتصاد إنتاجي، وأي نظام رعاية اجتماعية، هو من وصفات الصندوق التي يطبقها في كل الدول، مهما اختلفت ظروفها.
هذا كله جعل المزارع يعاف ما تبقى له من أرض وزرع ويتجه إلى الوظائف في الجيش والأمن والمؤسسات الحكومية، بل ويفضل هذه الوظائف على ما تنتجه يداه. ذلك أن أسعار المنتج الزراعي الأردني نزلت في الحضيض، ولم يجد المزارعون حكومة وطنية تشتري ما ينتجوه مباشرة فتخلصهم من نار التجار والسماسرة الكبار، سواء هؤلاء الذين يستغلون المزارع الأردني أو أولئك الذين سمحت لهم الحكومة بالاستيراد الخارجي الاحتكاري من دون قيد أو شرط.
إن مشكلة القلة القليلة المتبقية من المزراعين الحاليين، ومشكلة كل من يملك أرضًا، هي أن هذه الأرض لا يمكنها أن توفر له أدنى سبل العيش الكريم، بالتالي فإن المزارع -أو كل من ورث الزراعة ولم يشتغل بها- لا يمكن له أن يعتني بأرضه إن لم يجد نية حكومية جادة تدعمه على كافة الصعد، سواء خارجية تتعلق بإجراءات حمائية تمنع استيراد ما ننتجه محليًا، أو داخلية تتعلق بمصادر المياه، والحراثة، والبذار، والأسماد، والمعدات الزراعية، والأعلاف للثروة الحيوانية، والإرشاد الزراعي الفعال، وغيرها.