فيلم (The Cranes are Flying): الحرب عملة بوجهين

أنتج الفيلم السوفييتي The Cranes are Flying سنة 1957، وهو من إخراج  Mikhail kalatozov. يدور الفيلم في المواجهة الحاسمة بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. لكنه لا يعالج الجانب العسكري لهذه المواجهة، بل يناقش الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب. لهذا، نجد موازنة بين رفض الحرب بوصفها آلة تدمير وقتل من جهة، وضرورتها من جهة ثانية للدفاع عن الأرض وسيادتها وأمنها. إنها قفزة في النار هدفها ليس الموت، بل الحفاظ على حياة الشعوب من أطماع الدول الأخرى ومن روح انهزامية قد تتلبسها بدلًا من روح حرة تسري فيها سريان الدم في العروق.

يبرز في الفيلم تمجيد لشخصية المثقف الصادق في مواجهة المثقف الانتهازي، أو لنقل المثقف الذي لديه انحياز أيديولوجي طبقي مقابل الذي يمشي أينما توجهه مصالحه، وهذا الأخير يكون انحيازه وعى بذلك أم لم يعِ في الصف الآخر المعادي.

بوريس، المثقف الثوري، يعمل في مصنع ويكدح مع رفاقه فيه، ويتشرب بالأفكار الشيوعية في مواجهة رأس المال. لهذا، حين تبدأ التعبئة العسكرية لمواجهة ألمانيا النازية يتطوع تاركًا أهله وحبيبته التي ينتوي الزواج منها قريبًا، مضحيًا بكل ذلك تاركًا طيور الكركي تحلق في السماء. الطيور التي تدل على حياة رآها وأحبها، لكنه ذهب من أجل هذه الحياة بالذات. بالمقابل، يتهرب ابن عمه مارك من التجنيد برشوة يقدمها لرجل في السلطة. وخلال الحرب، يصبح موسيقيًا يعزف في أمسيات النخب. يكوّن شهرة ومالًا، ويقيم علاقات مع النساء. وتبرز نذالته بشكل جلي حين يغتصب فيرونيكا حبيبة ابن عمه خلال قصف الألمان لموسكو، ويرغمها بذلك على الزواج منه ثم يخونها مع نساء أخريات.

لم يتوقف أمر التطوع على بوريس وحده، فهذا والده، الطبيب الشيوعي، يشارك في الحرب أيضًا بمعالجة الجرحى في المستشفيات. إلى جانب ذلك، يستوعب الحالة الحرجة لفيرونيكا، ويحقد على ابن أخيه، مارك، ويرى فيه وجه الحرب القبيح. كذلك ابنته التي كانت ممرضة تشرف على العناية بالجرحى. عائلة كاملة في خدمة الحياة بالحرب، حيث لا يكون من وسيلة إلاها. حين غادرهم بوريس ودعه والده حزينًا. ما من أحد يفرح لذهاب ابنه للصراع مع الموت. كان ذلك مشهدًا من فيلم أنتج في فترة صعود الاتحاد السوفييتي، وقد قدم الطبيب الشيوعي رغم ذلك نقدًا ساخرًا لبعض الشعبويات الشيوعية، وتهكم على الكلام المعلب عن التضحية والفداء، رغم إيمانه بضرورة ردع ألمانيا والحفاظ على البلاد من الهزيمة والاندحار.

أما فيرونيكا، فتشع الآثار الكارثية للحرب من عيونها. يموت والداها بالقصف، فتعيش مع عائلة حبيبها. تظل ترزح تحت نير العار لزواجها من مارك، وتحت نير الانتظار. انتظار الحبيب الذي لم يرسل رسالة واحدة منذ ذهابه إلى الحرب. خلال تطوعها في المستشفى، إلى جانب عائلة بوريس، يهتاج أحد الجرحى، ويتبين أنه علم بزواج حبيبته من غيره. حينها يأتي الطبيب والد بوريس ويوبخه قائلًا إن امرأة لم تنتظرك لفترة قصيرة لا تستحقك، وهي خائنة لا شفاعة لها. تنهار فيرونيكا وتركض تاركة المستشفى، وفي الطريق تنقذ طفلًا كادت أن تدهسه سيارة مسرعة، وتتبناه. كان الطفل يبكي باحثًا عن أمه وأبيه. اسمه بوريس، وفي هذا كناية عن أن بوريس لا يموت. بوريس خالد وإن مات فهناك من يتابع بعده المسير.

لكن وفي غمرة تقلبها بين حقيقة موته ووهم أنه ما يزال حيًا، يأتي مجند رجع من الحرب إلى بيت أهله ليخبرهم بموت ابنهم. يصل ويلتقي بها عند الباب. يتحدث إليها، وحين يعرف أنها ليس قريبة لهم يخبرها بموته، ناسيًا أنها قد تكون حبيبته التي ضُرب بسببها. لقد كان بوريس يحتفظ بصورة لها، يظل يطالعها بين حين وآخر. مرة رآها رفيقه هذا، وعلق على جمالها بأسلوب شهواني مهين أغاظ بوريس، فأقدم على ضربه حالًا. لاحقًا، مات بوريس برصاصة في رأسه وهو ينقذ من أساء له. وها قد جاء الرفيق الذي نجا من الموت إلى أهله ليخبرهم بوفاته، شاعرًا أن عليه دينًا يود أن يسده بالوقوف إلى جانبهم وجانب فيرونيكا في محنتها.

ينتهي الفيلم بمشهد مهيب لرجوع الجنود من الحرب. فيرونيكا في يدها باقة ورد، وتتأمل أن يخرج بوريس من الرماد ويرجع حيًا بين يديها. تدور بين مشاهد العناق والفرح والبكاء. تبحث عنه ولا تجده في الجموع. مات إذن. تعانق رفيقًا كان يعمل معه في المصنع، فيواسيها. يواسيها الطبيب والد بوريس، ويضمها. يواسيها رجل عجوز وهي تبكي. يطلب منها أن توزع الورود على الأبطال الذين حققوا النصر. توزع الورود وهي تبكي. ثم تحلق طيور الكركي حاملة معها ربما روح الحبيب إلى السماء، أو ربما أن روحه طائر كركي يحلق في هذا السرب. إنه سرب الحياة التي لن تتوقف، وهو أيضًا «سرب العدم»، سرب الأرواح الذاهبة إلى حياة أخرى. «طيور الكركي، مثل سفينة، تسبح في الفضاء/ واحدة بيضاء وأخرى رماديةٌ/ لها مناقير طويلة وتسبح مثل سفينة في الفضاء»، هكذا كانا يرددان معًا، هكذا رددت في سرها. لقد انتهت الحرب إذن، وانتصرنا بها، ودحرنا عدونا وتهديده لأرضنا، لكنها طحنت أرواحًا شجاعة وتسببت بدمار عظيم.

عن عدالة وتحرر

شاهد أيضاً

رواية «الضحك» لغالب هلسا: منخرطًا في بكاء طويل

– علي ناصر صدرت رواية الضحك عام 1970، وكتبت بين عامي 1961-1966. هي أولى روايات …