عن الزراعة في الأردن: تاريخها القريب وواقعها الحالي

– لوحة الفنانة إسراء صمادي

منذ حكم الدولة العثمانية وحتى يومنا هذا لم يتطور قطاع الزراعة في الأردن، ولم يكن قطاعًا إنتاجيًا بالمعنى المتعارف عليه عالميًا، أي قطاعًا يوظف القوى العاملة، ويخفف من نسب البطالة، ويرغب المرزاع بأرضه ويحقق الأمن الغذائي. من زاوية أخرى، لا يشكل القطاع الزراعي مصدر دخل يمكن الاعتماد عليه والعيش منه في الأردن، سواء لصغار المزارعين وملاكي الأراضي، أو للعمال الدائمين والموسميين. بل إن أغلب العمال ليسوا أردنيين، وقد تفاقمت هذه الظاهرة منذ سبعينيات القرن الماضي.

كل هذا يدعونا في الحقيقة إلى أن نتساءل عن حال هذا القطاع، وعن أسباب تدني نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، ولماذا لا يتم الوقوف على تنميته وطنيًا بشكل جاد ومدروس. في هذا المقال، نحاول أن نلقي نظرة عامة وسريعة على الماضي القريب للزراعة في الأردن وعلى واقعها الحالي، منذ ما قبل تأسيس الإمارة وحتى اليوم. في الأثناء، نحلل واقع كل حقبة من الحقب. وختامًا، نجمل المشكلات ونقترح بعض الحلول التي قد تكون صعبة لكنها ليست مستحيلة التطبيق.

قبل التأسيس

قبل تأسيس الإمارة، كان شرق الأردن بحدوده الحالية منطقة اقتصادها مشاعي رعوي (بدوي) ومشاعي رعوي-زراعي (فلاحي). أي أن ملكية الأرض كانت جماعية لمن يقطنها، فحين تأتي مجموعة بشرية (قبيلة أو عدة قبائل) وتستوطن قطعة أرض، تكون قد تملكتها بشكل جماعي. عندها، تبدأ باستخدامها إما لغايات الرعي أو لغايات الرعي والزراعة معًا. وغالبًا ما كانت تتنقل هذه القبائل في فصلي الصيف والشتاء للتكيف مع قسوة المناخ، أو استجابة لقسوة الحياة عمومًا بحثًا عن الماء والمراعي وللابتعاد عن الغزو.

وقد كان لقلة اهتمام الدولة العثمانية بالمنطقة دور كبير في الحد من تطورها اقتصاديًا، وفي ترسيخ علاقات ما قبل رأسمالية فيها. وهنا نعني أن الملكية الجماعية لم تكن مبنية على أسس مدروسة تزيد من الإنتاج وتحفز العمل وتحقق الاكتفاء الذاتي، لكنها كانت تراوح عند أقل من الكفاف دون استغلال صحيح للموارد الطبيعية والبشرية ودون اهتمام في تنويع المحاصيل والاستفادة الأقصى من الري والأراضي ومحاولة إدخال التكنولوجيا أو بعض الأدوات الحديثة جزئيًا، وبشكل يؤدي إلى استقرار الناس واكتفائهم والحد من أن يغزو بعضهم بعضًا. على العكس من ذلك، كانت الدولة العثمانية تغذي القبلية عبر إقطاع بعض القبائل القوية على حراسة طرق القوافل والحج والإشراف على خدمتها مقابل ريع تدفعه سنويًا لها. كان هذا الريع بمثابة «خاوة» تدفعها الدولة بمعنى أو بآخر. وكان عدم تواجد الدولة في منطقة شرق الأردن، وعدم اهتمامها بتنميتها، والتعامل مع سكانها وسكان مناطق بلاد الشام عمومًا كمصدر لجباية الضرائب بمختلف أشكالها، عامل رئيس في الفوضى وعدم الاستقرار. لهذا ظهر الغزو، وعم الفقر والتخلف، وأصبحت القبائل القوية تغزو القبائل التي تمارس الزراعة بشكل دائم وتسلبها مالها وأرضها وتحولها إلى مراعي للمواشي، أو تفرض «الخاوة» عليها وعلى القبائل الضعيفة عمومًا، مما حال دون تشكل فائض إنتاج يمكّن من تأسيس تطور ما في الرزاعة وتوسع في الأراضي الزراعية أيضًا، وحال دون الاستقرار الذي يمثل أول خطوة نحو الانتقال من المشاعية إلى الاقتصاد الفلاحي.

ولم يكن في شرق الأردن إقطاع بالمعنى المتعارف عليه أوربيًا، ولا في بقية المناطق العربية الأخرى. خلافًا لذلك، ساد في الدولة العثمانية إقطاع بالمعنى الشرقي، وهو قريب من نمط الإنتاج الآسيوي الذي كتب عنه كارل ماركس. قريب منه لكنه لا يماثله. بمعنى أن الإقطاع كان يسلب القيمة عبر الضرائب وغيرها، من دون وجود علاقة ثنائية بين سيد وعبد. فمن ناحية كانت تفرض ضرائب العشر والميري والويركو وغيرها من الضرائب التي تقاسم المزارع إنتاجه وتتعدى على لقمة عيشه، إضافة إلى «الخاوات» التي تفرضها بعض القبائل على غيرها. أما من ناحية أخرى فقد ظهر الإقطاع أيضًا بأشكال متعددة، منها إقطاع التمليك الذي كان ينتقل بالوراثة، وإقطاع الاستثمار والإقطاع العسكري وهي إقطاعات خراجية كان الهدف منها حصول المستفيدين على الريع بدلًا من الرواتب لقاء خدمتهم في الجيش، وشرط أن يؤمنوا بعض الجنود الجاهزين للمشاركة في الحروب وقت الحاجة. وفي هذه الإقطاعات كان ثمة عمال يفلحون الأرض لقاء نصيب من إنتاجها.

في ظل هذا النمط الزراعي، وعلى عكس المناطق العربية الأخرى، لم يكن إقطاع الأراضي سائدًا بشكل كبير في الأردن، بينما ساد نموذج اقتطاع الضرائب وفرض «الخاوات»، نظرًا لضعف سيطرة الدولة على المنطقة وسطوة بعض القبائل فيها نتيجة لهذه الضعف.

من بريطانيا إلى أميركا

بعد تأسيس الإمارة، ركزت بريطانيا على دعم الأردن عسكريًا وعلى بناء الجيش والأمن لحماية مصالحها في المنطقة العربية، ولم تدعم القطاعات الإنتاجية بل وحاربتها أحيانًا. كانت تريد دولة هشة تعيش على المساعدات، والقروض بعد ذلك، ولا تستطيع القيام على قدميها. وفي فترة خصبة لتطوير الزراعة ومكننتها وتطوير مشاريع للاعتماد على الزراعة المروية، ظلت الوسائل اليدوية والزراعة البعلية سائدة لدى المزارعين، ولم يخصص لهذا القطاع الاستراتيجي سوى نسب ضئيلة من «المساعدات». في تلك الفترة، سادت في شرق الأردن زراعة الحبوب بشكل أساسي، وقد كانت زراعة تستخدم أدوات بدائية، وتعتمد على مياه الأمطار، مما جعل الإنتاج يتقلب من عام لعام. وكانت تمر بعض سنين الجفاف التي جوعت المزراع، وجعلته يبحث عن وسائل أخرى للعيش. من هنا، بدأت المؤسسة العسكرية والأمنية تستقطب الناس وتشجعهم على الالتحاق بها. كانت في سبيل ذلك تنظم حملات تجنيد في المدارس. ولاحقًا مع انتشار التعليم، ونتيجة عدم جدوى الاعتماد على الزراعة وحدها كمصدر للدخل، بدأ أبناء المزارعين يلتحقون بالوظائف العامة المدنية والعسكرية ويرتحلون من الريف إلى المدينة بحثًا عن عمل.

أما عقد السبعينيات فقد قاصمًا للزراعة في الأردن بشكل نهائي. في ذلك الوقت، تابعت كل الخطط الحكومية المتتالية (خطة سبعية في الستينيات، تبعتها خطط خمسية في السبعينيات والثمانينيات)؛ تابعت تلك الخطط عادتها في دعم القطاع الثالث (قطاع الخدمات) على حساب القطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة)، وبتوجيه مما يعرف ببرنامج النقطة الرابعة (وهو برنامج أميركي لدعم الدول النامية على غرار مشروع مارشال لدعم أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، وسمي بهذا الاسم لوروده في خطاب الرئيس ترومان كهدف رابع من أهداف الولايات المتحدة في السياسة خارجيًا) وبمبدأ آيزنهاور لملء الفراغ ومواجهة المد الشيوعي في المنطقة العربية. لكن الأنكى من ذلك، أن ما خصص من قليل للإنفاق على تنمية القطاع الزراعي انصب جله على منطقة وادي الأردن دون غيرها من المناطق، وكان الهدف منه إطلاق العنان للزراعة الرأسمالية التصديرية التي تعود بالنفع على البرجوازية الزراعية وكبار الملاك، بدلًا من توجيهها داخليًا لتحقيق نسبة من الأمن الغذائي وتوزيع الفائدة على صغار المزارعين. هذا إضافة إلى سبب سياسي يتعلق يتركيز الزراعة على الحدود مع الكيان الصهيوني، مما يهدد الإنتاج بالإتلاف والحرق والقصف، ويحد من العمليات التي تستهدف العدو خاصة بعد تجربة حرب الاستنزاف (1968-1970) التي شهدت عمليات متواصلة في تعاون والتحام بين الفصائل الفلسطينية والجيش العربي الأردني.

علاوة على ما سبق، تمثلت خطيئة عقد السبعينيات الكبرى في النمو غير المتوازن، إذ نمى إنتاج الخضراوات خصوصًا، والفواكه والأشجار المثمرة بدرجة أقل، على حساب الحبوب، حتى بات إنتاج الحبوب في يومنا هذا لا يحقق نسبة 2% من الاكتفاء الذاتي. كل هذا تحت رعاية أميركا بعد سياستها لملء الفراغ، وللسيطرة على الدول التي خرجت من نير الاستعمار وتحويلها إلى أسواق لمنتجاتها وللقمح الأميركي المدعوم. لكن الأهم في هذه السيطرة هو كسر الاتحاد السوفييتي وبسط يد أميركا على العالم كله بالعسكرة والنيوليبرالية معًا. كما كان لارتفاع أسعار النفط في العام 1973، دور رئيس في ترك الأرض للهجرة إلى الخليج، ذلك أن الزراعة لم تعد تجدي لجمهور المزارعين الصغار، فمع بداية الثمانينيات كان ما يقرب من ثلث الأيدي العاملة الأردنية في الدول العربية التي ازدهرت بسبب طفرة النفط.

المشكلات والحلول

إن القطاع الزراعي يواجه مشكلات كثيرة وجوهرية تحد من نسبة إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي التي وصلت إلى 3.4% فقط، ولعل أهم عائق أمامه هو أزمة شح المياه، يليها محدودية الأراضي الخصبة، وتفتت الملكية وتركزها في الوقت ذاته بيد القلة من كبار الملاك، وقلة الأراضي الزراعية عمومًا وتراجع مساحتها من 5.842 مليون دونم عام 1950 إلى 3.638 مليون دونم عام 2017 بسبب الزحف العمراني، ولسبب جذري آخر يعود إلى سوء التخطيط الذي أدى ويؤدي إلى إقامة المدن والتجمعات السكنية على أخصب الأراضي وترك تلك التي لا تصلح للزراعة. يضاف إلى ذلك تخلف التكوين الرأسمالي في الزراعة كالآلات والتكنولوجيا، وضعف الصناعة الزراعية وانتشار ظاهرتي الاحتباس الحراري والتصحر عالميًا. هناك أيضًا المشكلات التي تواجه المزارع الصغير وتحول دون تشبثه بأرضه وعمله، ولعل أبرزها غياب الدعم الحكومي، وجشع السماسرة والوسطاء الذين يحققون الربح على حساب تعبه ويشترون منتجاته بأبخس الأثمان، مما يشكل ضررًا مزدوجًا طرفاه المزارع والمستهلك.

كل ما سبق يحد من تطور القطاع الزراعي، وفي غياب الدولة عن تنمية القطاعات الإنتاجية وتشبثها بالاقتصاد الطفيلي تزداد أزمة هذا القطاع. لن تزدهر الزراعة ما دمنا تحت نهج الدولة النيوليبرالي الذي يحكمنا، فهو يقوم على توسيع قطاع الخدمات وهدم القطاعات التي تؤمن الدخل والوظائف وتحقق الاعتماد على الذات. فمنذ بداية الثمانينيات، ومع انفجار الأزمة أواخرها، بدأت تتراكم الديون حتى سقط الأردن في شباك صندوق النقد والبنك الدوليين، وتتالت سياسات هاتين المؤسستين في الإقراض المشروط بتخفيف الدعم أو إلغائه كليًا، ورفع الضرائب، والخصخصة وتخلي الدولة عن أداء دورها الاجتماعي. من هنا، قلصت ميزانية وزارة الزراعة، وقلص دعم الأعلاف والخبز وفرضت ضريبة على قطاع الزراعة لأول مرة عام 2018، وارتفعت الأسعار، وشاع الاستغلال وتراجعت الزراعة عمومًا.

من هنا فإننا نرى ضرورة النهوض بهذا القطاع، ومن المنطلقات التالية:
1. القطاع الزراعي قطاع إنتاجي يؤمن الدخل والوظائف، ويحقق الأمن الغذائي والاعتماد على الذات ويخفف من عجز الميزان التجاري.
2. القطاع الزراعي يناسب الأردن اجتماعيًا واقتصاديًا، ذلك أن الأردن دولة ذات اقتصاد صغير ومرورها بالزراعة على نطاق واسع يرفع الوعي ويثبت الناس بالأرض، ويشكل خطوة نحو الاشتباك بالقطاع الصناعي وتشكيل عمال لديهم وعي ثوري يمكن من تسييسهم.

وهذا قد يتطلب ما يلي:
1. زيادة مساحة الأراضي المخصصة للزراعة واستصلاح مساحات جديدة لها.
2. أن توزع الدولة ما لديها من أراض خالية على المزارعين الصغار، وأن تدعمهم وتشتري منتجاتهم بأسعار مجزية تمكنهم من التوسع والاستمرار.
3. إيجاد حلول لأزمتي المياه والطاقة، فهما أزمتان مترابطتان. فسحب المياه، واستخراجها ونقلها لمسافات بعيدة، يحتاج إلى طاقة، والطاقة في الأردن ذات تكلفة عالية.
4. تكوين التعاونيات الزراعية، والتوسع بها، بما يخدم روح التشارك والتعاون والإنتاج، ويكسر سلسلة السماسرة والوسطاء.
5. تحقيق النمو المتوازن في الإنتاج، وبناء على حاجة السوق المحلي، لكافة أشكال الإنتاج الزراعي النباتي والحيواني: الحبوب والخضراوات والفواكه والأشجار (النباتي)، الدجاج والضأن والبقر (حيواني).
6. تفعيل الصناعة الزراعية، بما يستثمر الفائض في بعض المواسم (خاصة الخضراوات) وينوع الإنتاج ويعززه.
7. تفعيل التنظيم الجدي الذي يحد من التغول العمراني على الأراضي الزراعية، خاصة وأن الأردن فيه مساحات واسعة من الأراضي الصحراوية التي ينبغي أن تقام المدن والأحياء عليها بدلًا من إقامتها على أكثر الأراضي خصوبة وإنتاجية (كما هو الحال في عمان وإربد).
8. الاستثمار في تنمية التكوين الرأسمالي لقطاع الزراعة، عبر إدخال الآلات الحديثة والتكنولوجيا.
9. عقد تحالفات اقتصادية عربية للتبادل وتعويض النقص في المنتجات.
10. إعادة إحياء مؤسسة التسويق الزراعي، وأن تكون أولى مهماتها تأمين نقل المنتجات الزراعية من المزارع إلى الأسواق الاستهلاكية مباشرة ومن دون وسطاء وبما يحل مشكلة النقل التي تواجه المزراعين الصغار، إضافة إلى تحديد سقوف سعرية للمنتجات موسميًا حتى يتجنب المزارع تقلبات السوق من حيث العرض والطلب.
11. إنشاء كليات وأكاديميات تعنى بالزراعة والعمل الزراعي، نظريًا ومهنيًا، بما يخرج مهندسين ومزارعين مهرة ومدربين.
12. تفعيل ودعم البحوث الزراعية أكاديميا في الجامعات وفي المركز الوطني للبحوث الزراعية، وذلك بجعلها تتركز على ما يواجه الزراعة من مشكلات داخليًا على كافة الصعد، وما لديها من حلول ومشاريع في الآفاق.

المراجع

1. المسألة الزراعية في الأردن: اتجاهات ونتائج التراكم الرأسمالي في ظل خطط التنمية وخيار النمو اللامتوازن، محمد سعادة عودة، مركز الأردن الجديد، 1991.
2. تطور علاقات الإنتاج والحركات الفلاحية في الريف الأردني، موفق محادين، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1981.
3. التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن: مقدمات التطور المشوه، هاني حوراني، منظمة التحرير الفلسطينية-مركز الأبحاث، 1978.
4. التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الأردن (1950-1967)، فهمي الكتوت، الآن ناشرون وموزعون، 2017.
5. الأزمة المالية والاقتصادية في الأردن: أسباب ونتائج، فهمي الكتوت، الآن ناشرون وموزعون، 2020.

عن عدالة وتحرر

شاهد أيضاً

التعديلات على الرسوم الجمركية: محاربة التنمية، وقوننة التهريب وتحويل البلد إلى سوق أجنبي

أعلن وزير المالية تخفيض الرسوم الجمركية في مؤتمر جمعه ومدير عام دائرة الجمارك يوم أمس، …