– موقع عدالة وتحرر
هناك جدلية ما تخص الاقتصاد، فهل هو في خدمة السياسة أم العكس؟
شيء يشبه سؤالًا عن الأصل، البيضة أولًا أم الدجاجة؟ البيضة أولًا، فهناك بيض آخر غير بيض الدجاج، وقد تكون إحدى هذه البيضات قد أخرجت لنا مرة دجاجة، بدلًا من عصفور مثلًا. السياسة أيضاً في خدمة الاقتصاد. فعندما بدأ الاستعمار الحديث، كان هدفه البحث عن مصادر وثروات طبيعية وأراض خارج دول أوربا، وقد تم نهب هذا كله، بل وحتى استعباد الناس للعمل بقوتهم اليومي فقط في أرضهم وما يفترض أنه بلدهم وثرواتهم.
كل هذا أسس فيما بعد لتفوق هذه الدول على حساب دول العالم الثالث في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، وأسس للإنتاج الهائل في ظل النظام الرأسمالي. هناك أمثلة كثيرة على الخدمة التي تقدمها السياسة للاقتصاد، من الحملات الصليبية إلى غزو العراق وحتى الأزمة السورية التي ما تزال رحاها تدور. غير أن هذا ليس موضوعنا.
الفن! لطالما كان ركيزة أساسية لدى حركات التحرر الوطني في كل العالم، فعربيًا كان لدى فصائل المقاومة الفلسطينية أغانيها وفنها الذي يهدف إلى نشر الحماس في صفوف الناس وتعبئتهم، ونشر الأفكار التي تدعو لها هذه الفصائل في مواجهة الكيان الصهيوني. كذلك الأمر في الجزائر واليمن والسودان وغيرها. كل تيار يروج لأفكاره من خلال الفن، لأنه أنجع وسيلة لذلك. الأدب أخلد من التنظير السياسي وأسهل هضمًا وأكثر جذبًا للجماهير، كذلك الموسيقى والرسم وغيرها من ألوان الفنون. الناس حين يخرجون في مظاهرة احتجاجية وفي ثورة يرددون الهتافات، والأغاني، في مواجهة السلطة السياسية. لا يوجد ما هو «ثقافي » بحت، ولا يمكن أن نفصل «الثقافي» عن «السياسي». كل من ينادي بذلك هو في صف السلطة، من حيث يدري ولا يدري.
مع اليمين. مع كل ما يعادي تطور المجتمعات، وتحررها، وفرض العدالة الاجتماعية فيها. لقد كان هناك تيارات تنادي بذلك في رابطة الكتاب الأردنيين، وهي ليست سوى أذرعة للدولة في مؤسسة نقابية كان لها ماض وطني في ثمانينيات القرن الماضي، ثم جاء رجالات دولة «مثقفون» واعتلوا سدتها. الثقافة، إذن، عندما تنأى بنفسها عن الأسئلة الكبرى، وتبتعد عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، عندما لا تفكر في الأديان والأساطير والغيبيات، ولا يكون لها رأي في الكون والوجود والطبيعة، فإنها، أي «الثقافة»، تغدو كلمة مجردة لا معنى لها. بناء على ذلك، ظل هناك مدارس فنية تخرج في مواجهة مدارس أخرى، فالواقعية ردت على الرومانسية، والسوريالية على الواقعية، وتشعبت كل مدرسة من المدارس، وصرنا نرى من يخلط أكثر من مدرسة في عمل فني واحد. فمثلًا، لدى الواقعية عدة مدارس منها الواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية.
الواقعية الاشتراكية، إذا أخذناها، بدأت جذورها مع غوغول ودوستويفسكي وتولستوي، قبل الثورة البلشفية، ثم قام الحزب الشيوعي السوفييتي بتجذيرها في المجتمع والعالم بعد قيام الاتحاد السوفييتي، وفي مواجهة الشيطان الأميركي. إنه أدب واقعي، ينتمي للفقراء والمهمشين في العالم، وينادي باسمهم، لكنه يحافظ في نفس الوقت على الجوانب الفنية لذلك، في الأدب والرسم والمسرح وغيرها. لا يجوز أن ترسل لي رسالة مباشرة فجة، وتقول لي إن هذا فن، ذلك أنه يمكن لي أن أتلقى أفكارك ذاتها في كتب فكرية أو في الصحافة اليومية أو من خلال محاضرات وندوات. الفن يقوم على ركيزتين أساسيتين إذا صح ذلك: أفكار، وخيال. أوصل لي أفكارك بصورة فنية مبدعة، وتمكن من أدوات الفن الذي تدعيه، وإلا ابحث لنفسك عن طرق أخرى. ولأن الفن أداة رائعة للتمدد في المجتمع، فإن الأنظمة السياسية استغلته في صنع شعبية لها، أو في مواجهة خطر يحدق بها. مثلًا، خلال الحرب العالمية الثانية، عرض في روسيا مئات آلاف العروض المسرحية، في كل المدن وعلى الجبهات، وكان هناك أغانٍ خلدت النصر على ألمانيا مثل أغنية كاتيوشا، عدا عن المقطوعات الرائعة لكبار الموسيقيين الروس مثل سيمفونية لينينغراد لشوستاكوفيتش.
في الأردن، روج النظام للانتصار العظيم في معركة الكرامة عبر بعض الأغاني مثل «صامد على خط النار أردنا» و «أنا الأردن». واستقطب، في وقت لاحق، فيروز للغناء عن عمان، ونجاة الصغيرة، ومؤخراً أنغام. كما اشتبك بعض الفنانين العرب بالثقافة واللهجة المحلية واستثمروها في غنائهم، مثل الفنانتين اللبنانيتين هيام يونس (غنت أيضًا من تونس) وسميرة توفيق (غنت أيضًا من العراق). من التجارب الهامة توفيق النمري، فقد دار في الضفتين الشرقية والغربية واستمع إلى رجالاتها ونسائها، ثم كتب ولحن وغنى ما استوحاه من الثقافة الشعبية بما لديها من عمق شامي. غير أنه كان يفسد بعض الأغاني الوطنية باستدخال رأس الهرم فيها وتأكيده على سردية النظام. ففي أغنيته «كثير حلوة كثير عيشتنا»؛ ترى أردنًا منتجًا يستغل موارده في أفضل صورة، وشعبه مرتاح ومبسوط أشد الانبساط ولا يخطر في باله التغيير. لا نحتاج حياة أفضل من هذه، لأنه «كثير حلوة كثير عيشتنا»، ثم يختمها بذكر أفضال رأس الهرم علينا. كان ثمة فن وطني جيد، حتى لو أنه موظف سياسيًا في بعض الأحيان، غير أن الأغنية الوطنية اتجهت منذ نحو ثلاثين عامًا نحو مسالك تافهة لا معنى لها، تصنع أوهامًا وتحارب طواحين الهواء وتطلق وعودًا تشبه تلك التي يتوعدها طلاب في مشاجرة جماعية لبعضهم، وتختصر البلاد بالآلة العسكرية والأمنية، وتتغنى برأس الهرم فقط.