– موقع عدالة وتحرر
«تشكّل حركة نضال الأجناس الملونة ضد المضطهدين الإمبرياليين إحدى أقوى الحركات وأهمّها ضد النظام القائم، لذا يلزم دعمها التام، دون ترددٍ، من قبل بروليتاريا العرق الأبيض».
– ليون تروتسكي.
بعد عقودٍ من النّضال من أجل نيل السود في الولايات المتّحدة حقوقهم المدنية، ما تزال العنصرية ممأسسةً ضدّهم من قبل أجهزة النظام السياسي السائد. حركة الحقوق المدنية التي اجتاحت أمريكا في الستينات أتت بعد قرابة قرنٍ من إلغاء العبودية إثر الحرب الأهلية هناك، ولكنّها -أي حركة الحقوق المدنية- لم تستطع انهاء واقع الاضطهاد الممارس ضد السود من قبل معتنقي نظرية التفوق العرقي، التي يطبقها “بيض” النظام السائد!
النضال الاجتماعي
وبعد عقودٍ من محاولات إدماج السود -أو نخب السود بالأحرى- في إطار ديموقراطية الشركات ورأس المال السائدة في الولايات المتّحدة، ما يزال سؤال الهوية العرقية والتمييز العنصري راهنًا، بحكم إغراق الولايات المتّحدة -ومن ثمّ العالم- في أتون سياساتٍ نيوليبراليةٍ دشّنت إخفاق الدولة بما هي راعٍ لمصالح المجتمع، بحيث فاقمت الفقر والجريمة وغياب التنمية لدى الفئات الأقل أهميةٍ بمعايير جلاوزة النيوليبرالية، وهم في الحالة الأمريكية: السود.
يقول المفكّر والمناضل كورنيل ويست: «لا يمكن فصل العسكرة المتزايدة للمجتمع الأمريكي عن سياسات الإمبراطورية الإمبريالية». يسوق ويست هذه البراهين ليدلل على إخفاق أمريكا بما هي تجربةٌ اجتماعيةٌ فاشلةٌ، على الرغم من كل مساعي الطبقة الاندماجية النيوليبرالية السوداء -أوباما والبقية- للترويج للحلم الأمريكي الفرداني الذي يناقض مصالح العامّة ويحطم أي إمكانيةٍ لتجربةٍ اجتماعيةٍ بإمكانها العبور بكل المضطهدين نحو بر الأمان.
تجربة أمريكا الاجتماعية بنيت على ديموقراطيةٍ قشوريةٍ، تتلافى طرح الأسئلة والعناوين الهامة، محاولةً الحفاظ على النظام القائم بكل مصالحه وعلاقاته التي تفرضها “إمبرياليًا” على العالم، ممّا يولّد نسخًا اجتماعيةً فاشلةً أكثر ابتذالًا في العديد من البلدان التي تعمم الولايات المتّحدة الديموقراطية فيها على الطريقة الأمريكية.
هنا لا يبدو تحرّك الحالي للسود، ونسبةٍ كبيرةٍ من البروليتاريين البيض والمثقفين البرجوازيين وسواهم، منعزلًا عن السياق الاجتماعي الإمبريالي الذي خلقته الإمبراطورية في أمريكا والعالم، وإن جاءت الانتفاضة الحالية نتيجةً للإعدام الميداني الوحشي الذي نفذته شرطة مينيابوليس بحقّ جورج فلويد.
هذا النضال الاجتماعي الذي يأتي معززًا بنسب بطالةٍ قياسيةٍ بفعل الإغلاق الذي فرضه وباء كوفيد-19، يشكّل فرصةً لتحدي مؤسسات النظام السائد المنحازة للنخبة السياسية والاقتصادية “الـ 1%”، ومن بين هذه المؤسسات يبرز جهاز الشرطة المتضخّم وذو الصبغة العسكرية، والذي تبدو الدعوات لإلغاء تمويله، لا بل أكثر من ذلك إلغائه كليًا، شكلًا من أشكال إعادة صياغة العقد الاجتماعي، مثلما تبدو دعوات توجيه الأموال المخصصة لتمويل الشرطة إلى برامج الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية وإعانات البطالة شكلًا من أشكال مقاومة السياسات النيوليبرالبية، وفرض الأجندة الاجتماعية بدلًا عنها.
الاستثمار الاجتماعي في أزمة الوباء
في الوقت الذي تحاول شركات التكنولوجيا فرض أجندتها الربحية الخاصة لاستغلال الظروف الناجمة عن الوباء، فإنّ النّاس في أمريكا وسواها تحاول التحرّك لفضح عالم انعدام المساواة الذي نعيش فيه، والذي تسبب في ضعف استجابة الدول للوباء، وأدى نتيجة لذلك إلى ملايين الإصابات وآلاف الوفيات بحكم التحوّل نحو سياسات الخصخصة، ووضع الربح قبل حياة الناس كأولويةٍ قصوى.
الجموع التي تملأ الشوارع في جلّ الولايات الأمريكية وفي العديد من مدن العالم، خرجت لتقول “لا” كبيرةً في وجه الأنظمة الرأسمالية المنافقة السائدة، فيما تحاول طرح أجندتها الاجتماعية الخاصّة التي تتحدى العنصرية والظلم الاجتماعي والفقر والبطالة، مثلما تتحدى كذلك الوباء بما هو عنوانٌ ضخمٌ لفشل هذه الأنظمة وانحيازها للنخب على حساب عموم النّاس.
حياة السود مهمةٌ في السياق الأمريكي، لأنّها تعيد طرح الأسئلة الهامّة التي كان مالكوم إكس ومارتن لوثر كنغ والبقية يطرحونها في الستينات، مثلما تعيد طرح علاقات السلطة والقوة كمواضيع هامةٍ على طاولة النقاش، وهي كذلك مهمةٌ على مستوى العالم الذي تحاول الإمبريالية الأمريكية جعل دوله نماذج مستنسخةً منها، بكل ما يعتريها من عنصريةٍ وانعدامٍ للمساواة وعسكرةٍ وسياساتٍ نيوليبراليةٍ متوحّشةٍ.
قد يكون العنوان اليوم هو: حياة السود مهمةٌ أو العدالة لجورج فلويد. ولكن بغض النّظر عن العنوان ستبقى الرأسمالية وستظلّ السياسات النيوليبرالية محفزًا لاحتجاج الناس على نظام غياب العدالة وانعدام المساواة السائد، سواء كانت الاستجابة ردّ فعلٍ على عنصرية النظام، أو كانت احتجاجًا على ضعف الاستجابة للوباء، أو كانت انتفاضًا في وجه أخطار الفقر والبطالة اللذين يتهددان النّاس في ظل هذا النّظام.