– موقع عدالة وتحرر
«إنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان».
– توماس هوبز.
يشهد هذا العقد بوضوح حقبة أفول السينما وتحولها لفن ثانوي يخضع لسلطة الصوابية السياسية، وانتزاع دور البطولة الذي كانت تتمركز حوله الأحداث باتجاه الأدوار الثانوية لأناس لا يقدمون شيئًا! غير أن خواكين فينيكس يقدم في فيلم الجوكر واحدًا من أهم أداءات هذا العقد، وذلك عبر تجسيده لدور البطل الخارق المركزي.
استعادة البطولة
يحاول هذا الفيلم استعادة ماهية السينما المتمحورة حول البطل «الذي يخرق العادي ويتجاوزه»، لكن في سياق اجتماعي أكثر منه سياق إثارة تسويقي كما هو دارج في سوق السينما اليوم. فعلى الرغم من الرتم البطيء للفيلم الذي يحاول تعريف المشاهد بالتطور الاجتماعي والأخلاقي لشخصية آرثر فليك، عبر تحوله من مجرد أضحوكة (Joke) إلى ضاحك مجلجل يؤدي دور البطولة الحاسم (Joker)، استطاع خواكين فينيكس القيام بأداء «معياري» لشخصية الجوكر، مطلقًا العنان لتفجر موهبته التي لطالما تمت الإشادة بها دون أن تحظى بالتقدير المناسب.
هنا يواصل فينيكس التطوير على شخصية الجوكر التي كان الأسطورة جاك نيكلسون قد رسخ أهم معالمها، قبل أن يأخذها الراحل، الموهوب الآخر، هيث ليدجر نحو آفاق كاريزماتية أكثر شعبية. لقد استطاع خواكين أن يسبر أعماق الجوكر، ويطلع الجمهور على ظروف تكوين شخصيته، عبر عكس شكل الحكاية التي لطالما قدمها باتمان، من استعراض لحياة الخيّر بروس وين وأتباعه، في مقابل الجوكر الذي تختفي معالمه الشخصية مثلما تختفي ملامحه الشكلية.
انتصار الشر
هل الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فعلًا، كما يقول هوبز؟ يعارض عالم النفس الألماني-الأميركي إريك فروم هذه المقولة، مثلما يعارض المقولة الأخرى التي تدّعي أن الإنسان خروف لأخيه الإنسان، إذ يقول: «الإنسان ليس بخيّر ولا شرّير. وإذا اعتقد المرء بخير الإنسان باعتباره الاحتمال أو الإمكانية الوحيدة، فسيضطر إلى تزييف وردي للحقائق، أو ينتهي في خيبة مريرة. وإذا اعتقد المرء بالطرف الآخر، فسينتهي به الأمر متشائمًا وأعمىً، لا يرى احتمالات الخير الكثيرة في نفسه وفي الآخرين. أما وجهة النظر الواقعية فترى كلا الاحتمالين كإمكانية واقعية، وتدرس شروط تطوير أي منها».
فروم هنا يأخذنا إلى تصور آخر عن الإنسان ككائن اجتماعي متفاعل مع محيطه، وهو يحذرنا من الانجرار خلف إطلاق الأوصاف التنميطية التي تحول الناس إلى أدوات، سواء للخير أو الشر، مما يعجل في التحول نحو التدميرية البشرية على حد وصفه.
لكن الجوكر الخاص بفينيكس لا يقدم نزعة الشر في شكل انفصالي، على الرغم من محاولة تصويره كائنًا فقد الإحساس بأي شيء كما يقول هو نفسه، ففقدان الإحساس هذا لا يعني بالضرورة نزوعًا نحو الشر وإن كان من الممكن أن يعززه، فكل هذا يحدث في ظل التفاعل مع المجتمع والتطور الذي يطرأ على قيمه ومفاهيمه ووعيه الاجتماعي.
سياسة المقاومة
رغم إنكار الجوكر أنه يتخذ موقفًا سياسيًا يعبر من خلاله عن شيء ما، إلا أنّ أفعاله تثبت العكس، وهو ما يقوله الفيلم دون أن يصرح به، فالموقف ضد النخب الحاكمة و«السيستم» هو، بطبيعة الحال، موقف سياسي جذري يتماشى تمامًا مع حركات المقاومة التي تغزوا العالم اليوم ضد نخب تحتكر السياسة والاقتصاد، وتسقط رؤاها المتوافقة مع مصالحها على المجتمع.
سياسة المقاومة هذه حتى وإن كانت لا تستطيع التعبير عن ذاتها وفق موقف أيديولوجي جليّ، إلا أنها تعبر بوضوح عن وصول الناس للحظة الانفجار ضد هذه النخب، ورغبتها العميقة في استعادة السيطرة على زمام أمور حياتها، وما أفعال الجوكر الفردية إلا التجسيد للرغبة الجماعية في الانتقام ممن ينتهك حقوق الناس ويستبد بها.