– علي ناصر
صدرت رواية الضحك عام 1970، وكتبت بين عامي 1961-1966. هي أولى روايات غالب هلسا. وإذا أردنا أن نضعها في سياقها الزمني، فإنها من الروايات العربية الرائدة التي تنبني على تشظي الزمن، وتداخل الأماكن والأحداث(1). تدور الرواية في مصر خلال الخمسينيات. إلا أن هناك في أحد فصولها بلدة أردنية ينفى إليها البطل من قريته بسبب نشاطه السياسي، وتدور فيها بعض الأحداث. فالبطل أردني، ويعيش في مصر بعد أن خرج من مسقط رأسه. وفي هذا استدلال على أن الرواية فيها شيء من الحياة الشخصية لغالب هلسا، بل إن نزيه أبو نضال يرى أنه هو نفسه ضمير المتكلم في «الضحك»(2). وليس هذا غريبًا، فغالب نفسه يقول «إنني أكثر كتاب الرواية العربية تعبيرًا عن الحياة الخاصة»(3).
تتحرك الأحداث في فضاء مصر السياسي والاجتماعي خلال الخمسينيات، وتبرز شخصية الراوي الذي ينتمي إلى حزب يساري، ويناضل مع رفاقه في سبيل التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية عبر تبني أيديولوجية نظام اشتراكي لا يبرر القمع ولا يكبت الحرية في سبيل وصوله إلى هدفه المرغوب. يجري، في خضم ذلك، ذكر العدوان الثلاثي على مصر وكفاح بور سعيد، وثورة العراق عام 1958 بما لها من تأثير أكيد على مصر وعلى القوى السياسية التي كانت تتخذ أفكارًا وحدوية في ذلك الوقت، خاصة ونحن نتحدث عن بلدان عربية خرجت لتوها من قبضة الاستعمار، وعن الجرح الذي ما زال حارًا بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. خلال العدوان الثلاثي التحق الراوي ورفاقه بمعسكر تدريبي تحسبًا لأية ضربة قادمة من الكيان الصهيوني. هناك تعمقت علاقته بـ«نادية» وتساكنا لأول مرة ودار على الكمنجة الوتر، شُد القوس مع النشّاب «لقد مزقنا تلك العلامة التجارية التي تؤكد أن البضاعة لم تستعمل من قبل (..) وكنا كمن يدخل بلدة غريبة: كل شيء جديد ومثير ومتحد».
كانت نادية بالنسبة إليه تلك المرأة المستحيلة صعبة الامتلاك، لكنه أراد الزواج بها وهي رغبت بذلك. هما من دينين مختلفين. من جغرافيتين مختلفتين: هو من الشام، أردني، وهي مصرية. ولا نقود. غير أن هذه حواجز يمكن تجاوزها، والمعضلة الكبرى تنبثق من شوقه الدائم لها، وشعوره بالخوف عندما لا تكون إلى جواره. يريد أن يكون ملمًّا بها، محيطًا بكل شيء تمثله جسدًا وحياةً ونفسًا. أن يذوب بها، ويذوب في المجتمع من خلالها وفي المدينة التي تشعره بالخوف. لا يتصور أن يكون لها فعل ورد فعل بعيدًا عن سمعه ونظره. يحس أن كتلة غامضة ستبتلعها إذ ذاك وتنهي ما بينهما. غير أن هذه العلاقة المأساوية تنتهي. ويتزامن انتهاؤها مع تفتت الحزب الذي ينتمي إليه بضربة من السلطة، ولتكلس بعض أفكاره وبعده عن الجماهير. تتدهور حاله بعدها. يلجأ إلى البغايا، ويتعمق شعوره بالإثم وحاجته إلى أن يتطهر من ذنبه، وأن يكون نظيفًا. بل إن رائحة جسد البغي، عرقها وعطرها الرخيص واللبان في فمها، تصبح أشد نفاذًا وتغطي على الروح الجماعية العظيمة التي تملكته فيما مضى، وعلى كل ذكرى مر بها. لا يبقى له سوى هزيمته وانكساره عاطفيًا وسياسيًا. يتحول إلى المقهى مع مجموعة من الرفاق. يجلسون وتدور النكات السخيفة بينهم، والضحك الذي يمثل عمق الأزمة التي يمرون بها.
وهكذا، تظل تتقلب الرواية بين جانبين: الحياة السياسية والحياة العاطفية. يسيران معًا على خط واحد، ينهضان معًا، ويسقطان معًا. خلال ذلك تكثر الأحلام، وأحلام اليقظة، والاستيهامات، التي تقطع السرد وتأخذنا نحو العوالم النفسية للراوي.
لماذا «الضحك»؟
يبدو لي أن غالب هلسا تأثر بنظرية الفيلسوف الفرنسي هنري بِرجْسون في الضحك، وتبنى تحليلاتها. تقوم النظرية في تشعباتها وتفريعاتها على فكرة جوهرية هي أننا نضحك من تصلب آلي في الجسد والفكر والطبع(4). لننظر إلى العالم من حولنا وهو يتصلب يومًا بعد يوم في فكرة واحدة تعيد نفسها وتكررها بشكل آلي، محولة الإنسان بذلك إلى مجرد «شيء». إن هذا لمضحك حقًا. فنحن «نضحك من كل شخص يوحي إلينا بأنه شيء»(5).
هذا الضحك هو في العمل الذي بين أيدينا وجه آخر للبكاء. «وكلما أعاود التفكير في ذلك الضحك المتشنج، المدمر، تتكشف لي نواح جديدة فيه (..) لم يعد يضحكنا إلا الوجه المرعب للعالم». أنت حين تنظر إلى حركة الحياة من حولك بعقلك فقط، ستهتز ضاحكًا بلا انقطاع. غير أنك حين تعيشها، بنفسك وعواطفك، ستنخرط في بكاء مرير لا ينتهي. إذن، فالضحك موقف وقصاص من كل هذا. موقف من التصلب في وجه الإرادة الحرة. من تنكر العالم وتحوله إلى مهرج يقوم بحركات بهلوانية مكرورة في الهواء، إلى مجرد أراجوز لا يقدم ولا يؤخر على خشبة المسرح. انتقام من فشل علاقته العاطفية، وتدمرها. من انهيار مشروع الحزب اليساري الثوري الذي كان فيه، وحلمه بالنهضة الكبرى.
وما تكرار بعض المشاهد إلا تأكيدًا على هذا الضحك المبكي. مشهد حبيبته نادية وهي تنتظره في الشقة ريثما يأتي. مشهد آخر وهو ينزع بتلات الزهور وينثرها في كل موضع منها: في فمها وشعرها وعنقها، بين أصابعها وثدييها. «وطلب مني ألا أضحك وهذا غريب لأنني كنت سأبكي». أو عندما تنام قليلًا، دقيقة أو اثنتين، ثم تصحو وتسأله: نمت كتير؟ وأيضًا، المشهد الذي يقال له فيه «برافو» بعد أن أصاب سبعًا من أصل عشرة طلقات في تمرين الرمي. وهناك تكرار حركي، أو جسدي، داخل بعض المشاهد يدلل على الضحك، ويؤكده ويؤكد خضوعنا له. من ذلك، مشاهد الجنس التي يتم تصويرها على شكل هبوط وصعود دائمين، بشكل متكرر، كآلة أو كبندول. ومشهد آخر من المعسكر التدريبي، حيث في طابور الطعام يظهر «مبروك» وهو يدير رأسه ويتكلم مع من خلفه ثم يمد عنقه ويكلم من أمامه، مكررًا ذلك حتى بدا وكأنه يرقص.
ولنوسع الدائرة قليلًا. إن وقوفنا عاجزين أمام لولبية العالم، مثير للضحك. وعجزنا هذا ينسحب على عجزنا أمام اللغة، والقيم، والنظريات والمقدسات. وقوفنا حائرين أمام سؤال: ما العمل؟ وعدم مقدرتنا على صنع إجابة وفعل لهذا السؤال الكبير. تحولنا إلى مجرد تروس في آلة الرعب والتآمر التي تحكمنا وتذلنا. «فجأة أصبح كل شيء مثيرًا للضحك؛ الأفكار، السلوك، الأشياء. بدا لي كل شيء جادًا، وقورًا بلا داعٍ ولا قصد، وكان ذلك يجعله متصلبًا وغير قادر على الحركة الحرة، كمن يستطيع أن يجري بسرعة خارقة تستحق التمجيد والجوائز، ولكنه لا يستطيع أن يتوقف عندما يصل إلى شفا الهاوية».
بين صخب المدينة وهدوء الريف
«كنت متأكدًا أنني إذا ابتعدت عن قريتي بعدًا كافيًا فإنني سوف أجد ذلك اليقين الذي أبحث عنه. ذلك الفردوس الذي أخرجتني منه شكوكي وانتظاري لعلامة، وتحولت حياتي بعده إلى محاولات مستمرة لاستعادة ذلك اليقين».
هناك فكرة رئيسة في الرواية تقوم على الشعور بالاغتراب في المدينة، وإلى النزوع الدائم نحو مسقط الرأس: القرية ببساطتها وهدوئها. إنهما مكانان متضادان كالجنة والنار. الراوي في النار، جسديًا، لكنه دائم التفكير بالجنة التي ابتعد عنها. ولا مناص. هذا التوتر الدائم سيظل يطل برأسه على طول الأحداث. ومن خلال الأحلام وأحلام اليقظة قد يستريح قليلًا من السرد ليذهب إلى هناك، إلى القرية التي تمثل الإيمان المطلق والبراءة والعيش في عالم بعيد عن الدنس والشعور بالإثم والمنغصات. أو قد تقطع عليه السرد نحو توهمات كابوسية تظهر فيها المدينة كيانًا غريبًا مرعبًا، حسب قراءة الناقد فخري صالح(6).
إن تجولاته في المدينة طولًا وعرضًا، في مقاهيها وحدائقها، ميادينها ومواخيرها، لا تخفف من حدة رعبه منها. لا الحب، ولا العمل السياسي الطامح نحو التغييرات الكبرى، ولا فكرة العدو المركزي ممثلًا بالكيان الصهيوني؛ لا شيء من ذلك ينزع منه شعوره ببرود العالم في المدينة، بتحللها وتلاشيها. بل إنه يزيد من تشبثه بالقرية التي تمثل الخلود، والطبيعة الرحبة، والرحم الدافئ وبداية التكوين. تمثل عالمًا اشتراكيًا صغيرًا. إن المدينة بسعة مساحتها جغرافيًا، مقابل القرية الصغيرة مساحة وتجربةً، لتمثل سجنًا أبديًا ضيقًا، ومحركًا دائمًا للموت، ونسخة من عالم استهلاكي مقيد بلا قيم، يبعث على التصلب والضحك نتيجة لذلك. ازدحام سكاني، وصخب لا يهدأ، وفضاء مغلق متوتر وليل كالنهار بلا سكون ولا سواد، حيث «يجب أن يكون هناك بعض الليل في الليل». بينما ثم رحم واسع هناك، فراغ لانهائي ينفذ بين البيوت، ونظرة على الأفق البعيد حيث تلتقي السماء بالأرض مكونة «تيامات» التي شقها مردوخ نصفين قديمًا ليخلق الأرض والسماء. القرية التي يرى نجومها الواضحة ليلًا كالنمش في وجه النساء، ومنها يشرف على البحر الميت ووادي الأردن، ويتأمل الجبال التي صعد أعلى قممها مرة ليطل على العالم فيما كل شيء حوله ينحدر متراجعًا.
وإذا كنا نرى المدينة، ممثلة بالقاهرة، فضاء باعثًا على الذعر، فإن ثمة أيضًا مدينة مسقط الرأس التي يشعر إزاءها بالاستحقار. هي حين نقارنها بالعاصمة المصرية ليست مدينة، بل مجرد بلدة فيها فضاء مديني ما. لذا فقد سماها «البلدة»، فلا هي مدينة ولا هي قرية. وفي ذلك نفي لها، ونفي لشخصه أيضًا؛ هو الذي إليها نفي من قريته بسبب نشاطه السياسي، حيث أتي به مقيد اليدين تنفيذًا لحكم صادر ضده بالإقامة الجبرية لمدة سنتين. وهذا يذكرنا بالنفي الداخلي الذي كان مألوفًا في الأردن حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا. يقول إنه غريب عن هذه البلدة، وأنها ليست بلدته ولن تكون كذلك قط. إنها بلدة يجتمع فيها كذب المثقفين، إلى جانب الرعب النسائي من الجنس. مفككة اجتماعيًا، يحتشد فيها أناس ليس ثمة بينهم رابط إلا قتل الأحلام، وقمع أية رغبة صادقة بالتغير والتقدم. انطووا في داخل صدفتهم، حتى تعفنوا وماتوا. فيها كذلك سياح أجانب، مرضى، يبحثون عن تجارب جنسية ومادة للكتابة على حساب آلام الناس ووجعهم. إنها بلدة تمثل السلطة الاجتماعية التي تقتل من يواجهها، والسلطة السياسية التي تخصي من يرفع رأسه أمامها.
المرأة الأم
يظهر تعلق الراوي بحبيبته نادية تعلقًا أموميًا. بل إنها تمثل الأم والقرية والجنوب والحرية، في مقابل المدينة والنظام الرأسمالي الأبوي والشمال المهيمن والعبودية والاغتراب. لقد لمح في بعض المواضع على ما يمكن أن يفهم منه أنها مثل أمه، وصرح في أخرى. ففي مشهد ما، وهو يبرر إلحاحه على الزواج العاجل بها قائلًا إنه يخاف عندما تتركه وحيدًا، وأنه يريد أن يراها 24 ساعة في اليوم، ترد بأنها «عندما كانت صغيرة، كانت تشعر الشعور نفسه نحو أمها». في موضع آخر، تظهر وهي تطعمه وتضع اللقمة في فمه كما لو أنه طفلها. تجدها في سهرة ليلية مستغرقة في سماع النجوم وهي تدور حول محاورها، فيما يتذكر أمه تصحو من نومها أحيانًا فزعة مرعوبة وتقول: «سمعت نحيب بنات غيث» «ماذا جنت هذه القرية، وأي إثم قد ارتكبت؟». وعندما ذهبوا إلى القناطر الخيرية، حيث الطبيعة والجو الريفي، ونثَر الورود في كل شبر من جسدها، انتابها إحساس بالأمومة تجاهه فقالت: «شعرت به كما أشعر بطفل حملته في أحشائي وأرضعته من ثديي، وها هو قد كبر يضاجعني في سريري»، وتولد الإحساس الأمومي هنا في الريف بالذات لم يأت مصادفة، فهو ينطوي على ربط بين الأم والقرية بوصفها «فردوسًا أموميًا مفقودًا»(7). إن هذا لا يمكن أن يفسر تفسيرًا فرويديًا مباشرًا بعقدة أوديب، وليس مجرد حنين إلى أمه التي ابتعد عنها، بل إن فيه استحضار للعصر الأمومي في مواجهة العصر الذكوري الذي نعيش، وتأكيد على أن تحرير المرأة مرتبط بتحررنا من الأيديولوجيا الرأسمالية الأبوية التي تحكمنا، وأنها، المرأة، تمثل جنة الاشتراكية المشتهاة مرمزة بالعصر الأمومي. وحسب فيلهلم رايش، فإن عقدة أوديب تنطبق على جميع أشكال المجتمع الأبوي، من الرق إلى الرأسمالية، وهي عقدة «مشروطة اجتماعيًا، يتغير شكلها مع بنية المجتمع. ويتحتم على عقدة أوديب أن تزول في المجتمع الاشتراكي، بسبب زوال الأرضية الاجتماعية، وهي الأسرة الأبوية»(8).
هنا سر اللعبة التي لعبها غالب هلسا. أظهر عقدة أوديب، لكنه أسقطها من مجال فرويد، وفسرها تفسيرًا ماركسيًا، متأثرًا برايش، وباخ أوفن الذي يرى أن الناس كانوا جميعهم سواسية في نظام سلطة الأم، لأنهم كلهم أولاد أمهات وكلهم ينتسبون إلى الأم الأولى، الأرض. والأم تحب جميع أبنائها، بلا قيد ولا شرط(9)، وعلى هذا نجد الراوي يضع نادية موضع الأرض، الأم الأولى، في وصف بديع ينطوي، إضافة إلى ذلك، على روح قومية وحدوية من جهة، وشهوة جنسية لا حد لها من جهة أخرى «إن هنالك عناية ما قد وضعت سر التي بجانبي في تلك الأم الأولى التي ألقت برأسها على جبال لبنان ومدت ساقيها على حفتي وادي الأردن العظيم، ومن تشققات ذلك الجسد أتى طوفان المياه لينتهي إلى تلك البحيرة القابعة في قاع العالم»، ويتكرر هذا الوصف حين نتقدم في الرواية نحو الأمام، ويظهر الأم وقد تمددت وتبعثرت أطرافها كل في ناحية عربية ما.
تفسير الأحلام
يرى فرويد أن الأحلام نشاط نفسي يخرج القوى اللاعقلانية فينا، ومكان يلعب فيه اللاشعور محققًا رغباته اللامعقولة التي لا يعيها صاحبها ولا يدرك أسبابها. أن هذه الرغبات اللامعقولة كبتت في أعماقنا صغارًا وبعثت إلى الحياة في الحلم. لذا فهو يفسرها عبر التداعي الحر، أي عبر ربط الحلم بحوادث سابقة له، وهذه بسابقات لها، حتى تمتد السلسلة وتتداعى فتجد سرها في طفولتنا(10). أما إريك فروم، ومع أنه بنى تفسيره للأحلام على نظرية فرويد، إلا أنه خالفها جوهريًا وبشدة من نواح عديدة. فقد رأى أن الأحلام فعالية نفسية، أو نشاط نفسي، تعبر عن الرغبات المعقولة واللامعقولة فينا(11).
وقد اقترب غالب هلسا في استثماره للأحلام وأحلام اليقظة من تفسير إريك فروم، ولو أنه ذكر عقدة أوديب بشكل صريح مرة، أو كان بالإمكان تفسير بعض الأحلام تفسيرًا فرويديًا خالصًا بعض المرات. لأذكر مثالًا على ذلك حتى تتضح الأمور. تفتتح الرواية بحلم يظهر فيه الراوي وهو يسير في شارع مسقوف يشبه الأنفاق. نتبين لاحقًا، في الفصل الثالث، أنه شارع من شوارع القاهرة تقف فيه الأشجار على الجانبين، وتتشابك مع بعضها مكونة ما يشبه النفق. أن يظهر له ذلك في الحلم، وفي ظل أجواء مخيفة تنتهي بمحاكمته لسبب لا يعرفه، ليمثل أولًا شعوره تجاه المدينة بشكل عام، وثانيًا شعوره تجاه هذا الشارع الذي تلقّى تحت ظلال أشجاره قبلات عديدة من نادية. إن مشهد الأشجار المتشابكة ليفهم على أنه عناق الأيدي، والتصاق الجسدين. غير أن استحضاره في الحلم بعد انتهاء العلاقة بينهما كان يظهر ندمًا وحزنًا على ما فات. بذا فهو حلم عادي، ليس فيه رغبة لا معقولة يتمنى تحقيقها. قد يقول قائل إنه يشتهي رجوع نادية إلى أحضانه، وهذه رغبة ليست في متناول الأيدي. لكن هذا ليس صحيحًا، فالنهاية تركت مفتوحة، ولم يقطع بانتهاء العلاقة تمامًا، إذ ظل الأمل موجودًا باستعادتها. «وما زلت أعتقد بأن الصدق يستلزم من الكاتب أن يكتب حكاية لا تنتهي أبدًا، وأن عليه أن يكتب في آخر صفحاتها اعتذراه: لا أستطيع ان أمضي أكثر من ذلك لأنه علي أن أموت». بهذا، فإن الأحلام في أجواء الرواية قد تكون معقولة أو لا معقولة، منتمية بذلك إلى تعريف إريك فروم.
حلم آخر ظهر في البلدة التي نفي إليها. جاءه الشيوعي «عيسى» حزينًا مؤرقًا، وأخبره بما حلم، وكان حلمه كالتالي: اندفع مع المياه المعدنية، وانتهى في الكهف الذي يغيب فيه الشلال. هناك رأى امرأة عارية تعرض جسدها للبخار. شدته من يده وضاجعها غارقًا في متعة لا مثيل لها. عندما نظر في وجهها اكتشف أنها أمه. حلم مثل هذا يمكن أن يفسر بعقدة أوديب. فالطاقة الليبيدية، حسب فرويد، تتشكل لدى الطفل بدءًا من فمه وهو يرضع ثدي أمه، ثم يصبح لها علاقة بالتغوط إلى أن تتركز أخيرًا على الأعضاء التناسلية. وكل طفل لديه شهوة تجاه أحد الوالدين، ويحقد نتيجة لذلك على الآخر. بهذا، فإن حلم عيسى يمكن أن يفسر بشهوته لأمه في طفولته، وتفجر هذه الشهوة اللاعقلانية في حلمه بعد النضج. غير أنه يمكن تفسيره بالفكرة التي يناضل من أجلها عيسى، وهي الاشتراكية أو المجتمع الأمومي المفقود، وقد تحقق له هذا في حلمه عبر التصاقه بالأم وذوبانه فيها. عيسى الذي كان يخطط لكتابة تاريخ البلدة وإعادة صياغتها ثوريًا، انتهى مخصيًا مجنونًا. واجه السلطة السياسية وسلطة المجتمع، فانتهى إلى ذلك. والإخصاء هنا رمز للقمع السياسي-الاجتماعي-الثقافي، ورمز للاستلاب في العصر الرأسمالي(12).
خاتمة
غالب هلسا روائي مجدد ورائد سواء على صعيد البناء الروائي، أو التقنيات السردية العصرية التي استخدمها. تلعب الأحلام، وأحلام اليقظة، بلغتها الرمزية النفسية جزءًا أساسيًا ليس في عمله هذا حسب، بل في أعماله كلها. وإن قال بأن سيرته الذاتية تتبعثر في أعماله، فإن رؤاه الفكرية تظهر عميقة فيها أيضًا. يملك لغة تصف ما لا يوصف. شعرية، رقراقة، مدهشة ومتوترة دائمًا. لغة تلعب في الحد الفاصل بين الحياة والموت. تشعر بها وكأنها قادمة من بئر بعيدة، وتحتويك بهالة غريبة يختلط فيها أقصى المشاعر حزنًا ونبلًا. إنها قوس مشدودة أبدًا. لا ترتخي، لا تطلق النشّاب. إن أطلقت النشاب انتهت، وتلاشت.
وعلى حد تعبير عامر الشقيري: من المؤكد أن غالب هلسا اختار العنوان فقط، ثم استأنف البكاء.
- د. محمد عبدالله القواسمة، زمن الكتابة الروائية ورواية الضحك لغالب هلسا، صحيفة الدستور، تاريخ 26/06/2016. الرابط: زمن الكتابة الروائية ورواية الضحك.
- نزيه أبو نضال، في رحلات غالب هلسا-سيرة جوانية موازية، مجلة أفكار، عدد 372، ص 23.
- مفلح العدوان، غالب هلسا مبدع أردني.. وحضور عربي، مجلة أفكار، عدد 372، ص 6.
- هنري برجسون، ترجمة سامي الدروبي وعبدالله عبد الدائم، الضحك-بحث في دلالة المضحِك، ط1، دار العلم للملايين، القاهرة، 1983، ص 27.
- المصدر السابق، ص 52.
- فخري صالح، في استعادة غالب هلسا بعد ثلاثين عامًا من الغياب، مجلة أفكار، عدد 372، ص 12.
- موفق محادين، المعمار الفكري عند غالب هلسا، مجلة أفكار، عدد 372، ص 35.
- فيلهلم رايش، ترجمة بوعلي ياسين، المادية الجدلية والتحليل النفسي، ط2، دار الحداثة، بيروت، 1982، ص 60.
- إريك فروم، ترجمة صلاح حاتم، الحكايات والأساطير والأحلام-مدخل إلى فهم لغة منسية، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1990، ص 152-156.
- المصدر السابق، ص 49-50.
- المصدر السابق، ص 45.
- موفق محادين، المعمار الفكري عند غالب هلسا، مجلة أفكار، عدد 372، ص 35.