في شهر حزيران الماضي، كُلف سمير الرفاعي من قبل الملك عبد الله الثاني لرئاسة «اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية». وقد تألفت اللجنة من 92 عضوًا من تيارات مختلفة توزعت لاحقًا على ست لجان فرعية، هي: لجنة الانتخاب، لجنة الأحزاب السياسية، لجنة تمكين الشباب، لجنة تمكين المرأة، لجنة الإدارة المحلية، لجنة التعديلات الدستورية المتصلة بقانوني الانتخاب والأحزاب وآليات العمل النيابي.
في الواقع، وبعيدًا عن الكلام المعلّب في وسائل الإعلام، جاء قرار تشكيل اللجنة بمثابة خطوة استباقية لامتصاص الانفجار الاجتماعي، وبعد أحداث وهزات صدّعت شرعية النظام السياسي في السنوات الثلاث الماضية. على رأس هذه الأحداث، المواجهة التي خاضتها نقابة المعلمين مع السلطة السياسية سنة 2019، لانتزاع مجموعة من المكتسبات. حينها، شهدنا أكبر التفاف شعبي في تاريخ الأردن من أهالي المعلمين والطلاب، وكافة فئات المجتمع التي رأت في المعلم صوتًا يمثل هاجسها اليومي في مواجهة النظام ودوائره. ثم جاءت جائحة كورونا وفاقمت سوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي للناس، وكشفت ضعف القطاعين الصحي والتعليمي. خلال ذلك، تحيّنت السلطة السياسية الفرصة للانتقام من نقابة المعلمين، فحلّت مجلسها وأغلقت مقرها ولاحقتها قضائيًا وعاقبت بعض قياداتها وأعضائها بالإحالة للتقاعد المبكر والاستيداع. بعدها، تتالت أحداث أخرى مثل حادثة الأمير حمزة التي كانت مادة للإعلام الغربي تحدث فيها عن انعدام الحريات وتقييدها في الأردن، وحادثة النائب السابق أسامة العجارمة، وحادثة مستشفى السلط. من هنا، كان كل ما سبق بالنسبة للنظام السياسي مؤشرات على الاحتقان الشعبي. ومع انتخاب إدارة أميركية جديدة لها علاقة جيدة مع النظام في الأردن وتركز على الحريات الفردية (شكليًا)، وفي محاولة من النظام السياسي لتبييض وجهه دوليًا وإعادة شيء من شعبيته محليًا، شُكلت هذه اللجنة؛ لكن ليس من أجل صالح الناس، بل لامتصاص غضبهم من خلال إفراز نخب جديدة تنتمي للدائرة نفسها، وتصدير قرارات شكلية لا تلبث أن تنسى، وتوضع في الجوارير، مثلها في ذلك مثل لجان وحركات التفاف سياسي سابقة في أحداث غضب شعبي عارم، منها: لجنة الحوار الوطني خلال الربيع العربي، واختيار عمر الرزاز رئيسًا لحكومة جديدة إثر هبة رمضان سنة 2018.
بداية شهر أكتوبر، أصدرت اللجنة الملكية تقريرها. كان من ضمن مخرجاتها مقترح لقانون انتخاب جديد. بعد قراءة المقترح، يمكن القول بأن أهم سماته وجود صوتين للناخب. أحدهما لقائمة محلية في مكان إقامة الناخب. وقد وسعت الدوائر الانتخابية المحلية وقلصت إلى 18 دائرة فقط، حيث كل محافظة دائرة واحدة باستثناء عمان (3 دوائر) وإربد (دائرتان)، إضافة إلى دائرة لكل منطقة من مناطق البدو (شمال ووسط وجنوب). أما الثاني، فلدائرة وطنية مغلقة على مستوى المملكة، تقتصر على الأحزاب والتحالفات الحزبية، وتحصل على 41 مقعدًا في المجلس النيابي من أصل 138 مقعدًا مقترحًا، ويشترط في القائمة أن تضم مرشحين من نصف الدوائر الانتخابية المحلية كحد أدنى. كما حددت العتبة(*) للقائمة الوطنية المغلقة بواقع 2.5٪، و7٪ للقوائم المحلية المفتوحة (يصوت الناخب للقائمة ومرشحيها، أحدهم أو بعضهم)، وسُمح لمن في مناطق البدو الترشح خارج دوائرهم، وسُمح لمن بلغ الخامسة والعشرين الترشح، وحوفظ على وجود كوتا للنساء (18 مقعدًا) والمسيحيين (9 مقاعد) والشركس والشيشان (3 مقاعد) كحد أدنى، إذ يحق لهم الاختيار بين الكوتا والتنافس الحر. كما اشتُرط في القائمة الوطنية أن يكون ضمن أول ثلاثة مرشحين امرأة وفي الثلاثة التالين كحد أدنى، واشتُرط أيضًا أن يكون ضمن أول خمسة مرشحين في القائمة الوطنية شاب يقل عمره عن الخامسة والثلاثين. هذا أبرز ما جاء في قانون الانتخاب، إضافة إلى تفصيلات أخرى تجدونها في الوثيقة المنشورة على موقع اللجنة الملكية.
نعم، وبالمنطق الليبرالي النظري، هذا قانون ديمقراطي يفرز ممثلين عن كافة فئات المجتمع، عبر الاحتكام للصناديق. فبإمكان كل مواطن، سواء كان في قرية أم مخيم أم ابن مدينة، أن يدلي بصوته محليًا ووطنيًا. بإمكانه أن يصوت محليًا فقط، أو وطنيًا فقط. بإمكانه أن يمتنع عن التصويت. فالقانون يظل نظريًا، وبكل الأحوال، قانونًا تمثيليًا. يمثل الأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، والعشائر، وأبناء المخيمات، وأبناء الأحياء الكبيرة والصغيرة في المدن. يمثل من يملوك المال، وأصحاب السلطة، والطبقات الفقيرة والمتوسطة الدنيا والمتوسطة العليا التي تريد أن تقفز طبقيًا إلى فوق. كل هؤلاء أمام 18 صندوق في دائرة محلية موسعة، وأمام صندوق واحد في قائمة وطنية مغلقة على الأحزاب والتنظيمات.
لكن من الناحية العملية، وبمالفهوم الحقيقي للديمقراطية، فإن هذا منطق ضد الناس. هذا قانون ينزل بالباراشوت على مجتمع مفرغ سياسيًا. لا أحزاب ولا تنظيمات قوية وممتدة فيه، باستثناء الإخوان المسلمين لظروف لا مجال لذكرها هنا. لا نقابات مهنية وعمالية فيه، فهذه نقابة المعلمين التي صنعت مسارًا خاصًا لانتزاع القوة بالقوة، وأثبتت أن «الديمقراطية» لا تكون بمجلس النواب فقط، حوربت وحُلّ مجلسها وأُغلقت. مع ذلك، تجد مقترح القانون يخصص لهذه التنظيمات، غير الموجودة عمليًا، ما نسبته 30٪ من مجلس النواب القادم، و50٪ للمجلس الذي يليه، و65٪ لبعد الذي يليه. ولو أنها موجودة فعلًا، لما اقتُرح مثل هذا القانون. لو أن لها مخالب وأنياب لوجدت بدلًا من ذلك قمعًا وأحكامًا عرفية وقوانين من العصور الوسطى. لكن، وحتى في مثل هذا القانون، ورغم الوعود الكاذبة العديدة التي قطعت لمنع تدخل الأجهزة الأمنية في العمل السياسي، لن تكف هذه الأجهزة عن هندسة الانتخابات، ليس عبر التزوير المباشر بل عبر تصعيد شخصيات ذات ثقل عشائري ونخب مالية وانتهازية قريبة من دوائر النظام السياسي. ففي الانتخابات الأخيرة (في شهر 11، 2020) رأينا كيف سُمحت الانتخابات الداخلية للعشائر والمناطق على نطاق واسع وتحت إشراف أمني، رغم استفحال فيروس كورونا في المجتمع، ورأينا كيف مُنع بعض النواب السابقين من الترشح وكيف أُفشلت بعض القوائم عبر منع المرشحين من الانضمام إليها.
الحقيقة ماثلة أمامنا. فمنذ حكومة سليمان النابلسي والفترة العاصفة التي سبقتها، أدرك النظام أن قوته في سحق التنظيمات وتفكيكها، عبر قمعها ومحاربتها ميدانيًا وإعلاميًا. عندها، واجه القوميين واليساريين في فترة صعودهم محليًا وعربيًا. (لم يكن هذا خيار النظام وحده، بل خيار الإمبريالية الرأسمالية ممثلة بأميركا، وحربتها الصهيونية في المنطقة العربية، وما يزال. والهدف منه خلق دول تابعة مستكينة لا تنمية وطنية فيها، والاستفراد بالعالم كله عبر بسط سلطة الإمبراطورية الأميركية عليه، وجلب الريوع الإمبريالية منه إلى خزينتها). أكثر من ذلك، فإن نقابة المعلمين التي لعبت دورًا هامًا في إسقاط حلف بغداد سنة 1956، عبر تنظيم المظاهرات من المدارس، حلها النظام السياسي، وحين أعاد المعلمون إحياءها بالقوة سنة 2010، ومن ثم انتزعوا مكتسابتهم بالقوة سنة 2019 بعد الإضراب، عاد النظام وانقض عليها خلال جائحة كورونا وبحجتها. حتى حزب التيار الوطني (حزب عبد الهادي المجالي)، الذي كان محسوبًا على الدولة، لم يتحمله النظام السياسي، فهمش كل رموزه وأخرجها من دائرة النفوذ والتنفيع. وفي مقترح القانون الحالي، هناك شرط ينص على ألا يكون المرشح «محكومًا عليه بالحبس مدة لا تزيد على سنة في جريمة غير سياسية ولم يُعف عنه»، هذا النص القديم الجديد قد يُتخذ وسيلة لإقصاء من لا يأتي على هوى صانع القرار، ذلك أن القانون الأردني لا ينص على ما يسمى «جريمة سياسية»، فجميع الأفعال التي يُجرّم مرتكبوها هي جرائم غير سياسية طبقًا للقانون، وقد حدث ذلك سابقًا مع توجان فيصل ومؤخرًا مع غازي الهواملة. ثم بعد كل ما سبق، يأتي مقترح قانون الانتخاب على أرض مَحلٍ، ولماذا؟ ليقطف ما على أشجارها من ثمار!
أي بدلًا من أن تغير من تحت، من أن توزع الثروة والقوة في المجتمع، وتفتح الحياة السياسية، وتكف عن قمع المعارضة الوطنية التي قد تملك مشروعًا وأيديولوجيا، وتسمح لتلك التي لا تملك المشروع والأيديولوجيا، بسبب تجويفك لها، أن تمشي في طريق بناء ذاتها. بدلًا من أن تفتح العمل النقابي لأنه عمل سياسي بالأساس، ورافعة من روافع الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية التي تقوي نفس الناس وتبث روح العمل الوطني المنظم فيهم. بدلًا من كل ذلك، تقترح قانونًا من فوق، وهذا القانون سيملأ الكأس ويفيض ليسقي الناس حليب الديمقراطية الغني بالحرية والعدالة والمساواة. الناس الجوعى، والناس الذين يعيشون عند خط الفقر وتحته، والناس الذين يتقاضى ما يزيد على 80٪ منهم رواتب تقل عن 500 دينار، والشباب الذين تبلغ نسبة البطالة في صفوفهم 50٪، والنساء اللواتي يتحملن عبء العمل وعبء البيت ولا يجدن وقتًا لممارسة نشاط وطني وسياسي، هذه الفئات التي تمثل المجتمع وتصنع هويته حقًا، هوية الكادحين والمفقرين، مطلوب منها أن تصوت، ولمن؟ لمن يملكون المال، ولمن يدعون تمثيل العشيرة والقرية والمخيمات، ولأحزاب كرتونية أغلبها ديكور لتجميل الوجه الليبرالي للسلطة ووظيفية تتلقى الأوامر بالألو، ومنها معارضة لا مشروع لها ومعارضة تُحارب كلما رفعت رأسها وتنفست.
أنت في بلد يديره نهج نيوليبرالي دمر الاقتصاد، وخصخص الممتلكات العامة وكبل الخزينة بالديون. نهج قطع الطريق على تطوير القطاعات الإنتاجية، وخربها. لكنك بت الآن جاهزًا للديمقراطية، و«الحكومات البرلمانية» و«الأحزاب البرامجية»، وبت جاهزًا للدخول في جنة «الهوية الوطنية الجامعة». في بلد لا تعليم مجاني فيه، ولا صحة مجانية فيه، وبناه التحتية تتهالك يومًا بعد يوم وتُظهر أزمات سوء التخطيط والتنظيم. في دولة تنسحب من أداء دورها الاجتماعي، وفي أية حادثة مفصلية ينكشف ضعف قطاعاتها الموجهة للصالح العام. دولة عرّت جائحة كورونا ضعف قطاعيها الصحي والتعليمي، وهشاشة اقتصادها الطفيلي. ومع ذلك، ها إنك اليوم معرض لتعديل سلوكك الانتخابي. أنت، وإن كنت ممنوعًا من تنظيم نفسك، نقابيًا ومهنيًا وحزبيًا، أصبح لك اليوم صوتان، بدلًا من صوت واحد، أحدهما للتنظيم الذي منعت منه.
نعم، قد يعدل القانون نظريًا السلوك الانتخابي. ونظريًا، قد يكون له دور عبر وقت طويل في تكريس التصويت على أساس وطني. قد يجعل الإنسان أكثر ميلًا وإصرارًا على صنع التنظيم. لكنه في الوقت ذاته قد يجعله، وفي ظل النهج الذي يقود البلد، أكثر ميلًا للتنظيمات الزبائنية منزوعة الدسم، تلك التي تتشكل بهدف الحصول على مكتسبات شخصية من خلال علاقتها بالنظام السياسي. تنطيمات موالية من نخب مالية وعشائرية وتجار وانتهازيين (وتسمي نفسها وطنية للمفارقة، وتحتكر المصطلح لنفسها)، أو تنظيمات تقدم دور المعارضة الناعمة التي إن رمانا النظام بحجر رمته بوردة. إذن، مشكلتنا ليست في قانون، بل في مواجهة رأس المال بطوره النيوليبرالي الطفيلي. ليست مع الديمقراطية، بل مع مفهومها وتطبيقها من منظور ليبرالي. وفي ظل حياة يسيطر فيها الفقر والبطالة وانعدام الأفق على مفاصل المجتمع، ويركض الناس كالأشباح خلف قوت يومهم، سيكون لدينا قانون انتخاب بلا ناخبين ولا تنظيمات. بهذا، يكون القانون الديمقراطي الذي يمثل الناس نظريًا، يمثل عليهم واقعيًا، ويزور أصواتهم مسبقًا وبشكل غير مباشر وعبر انتخابات نزيهة وحرة يشهد لها القاضي والداني. قانون صاغته لجنة ملكية لتحديث «نخب» سياسية جديدة حتى تنقذ النظام من هبوط شرعيته شعبيًا، وليس قانونًا موجهًا لصالح هذا الشعب الذي يغلي وعلى وشك الانفجار. إنها ديمقراطية القِلّة. تلك هي المسألة.
الهوامش
* العتبة أو نسبة الحسم: هي الحد الأدنى من الأصوات الذي تحصد القائمة الانتخابية بناء عليه مقعدًا في البرلمان، وتُحسب من خلال قسمة أصوات القائمة على مجموع أصوات القوائم. ولاحتساب عدد المقاعد، تُضرب العتبة بعدد المقاعد الكلي. على سبيل المثال، إذا كان ناتج القسمة 2.5%، نضرب (0.025*41)، فتحصل على مقعد واحد (1.025). 5%، مقعدان (2.05). وإذا كانت النتيجة أرقامًا غير صحيحة، يتم اعتماد الباقي الأعلى لملء ما تبقى من المقاعد.