تحت إشراف أميركا والإمارات، وُقع أمس إعلان النوايا لاتفاقية أردنية إسرائيلية مشتركة تولد الأردن فيها 600 ميغا واط من الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية لإسرائيل، وتحلّي إسرائيل 200 مليون متر مكعب من مياه البحر المتوسط للأردن.
يأتي هذا التوقيع الذي ستُدرس جدواه الاقتصادية العام المقبل، كنتيجة حتمية للسلام والاستسلام، بدءًا من معاهدة وادي عربة إلى اتفاقية الغاز وانتهاء باتفاق اليوم. وهو خطوة جديدة في مسار الربط العضوي للكيان الصهيوني بالمنطقة العربية من خلال الأردن. هذا المسار الخطر يعني بالضرورة إضعاف الأردن وتعميق ارتهانه وكسر إرادة شعبه، وتقوية الكيان الصهيوني عبر إحكامه السيطرة على أهم القطاعات الاستراتيجية للحياة والسيادة والأمن الوطنيين: الطاقة والماء.
إن أزمة المياه مع الكيان الصهيوني ليست جديدة، وما كان يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، فقد بدأت منذ هيمن على مياه نهر الأردن ونقلها من خلال ما يسمى «الناقل الوطني العظيم» بين عامي 1956 و1964 إلى صحراء النقب وتل أبيب، سارقًا حصة الأردن من المياه. ومن خلال سرقته للمياه الجوفية في حوضي وادي عربة. وتمكنه من خداع الأردن في مفاوضات معاهدة وادي عربة المشؤومة على حصته من المياه.
علاوة على ذلك، استكملت الأزمة دومًا بمزيد من التعدي الذي لم يقابله رد. فقد بنى الكيان الصهيوني ستة سدود على وادي الرقاد، وهو الرافد الرئيس لنهر اليرموك، بسعة تخزينية تقدر بـ15 مليون متر مكعب. وهذه سرقة أخرى لحصة الأردن، ذلك أن اتفاقية وادي عربة المشؤومة تنص على أن حصة الكيان الصهيوني من نهر اليرموك هي 25 مليون متر مكعب فقط. وعبر الحصاد المائي، والحفائر والبرك التجميعية، أخذ ويأخذ ما يزيد على 50 مليون متر مكعب من مياه الجولان، وهذه الكمية لولا تدابيره هذه لانصبت في نهر اليرموك، إضافة إلى أن استيلاءه على الروافد العليا لنهر اليرموك زوده بـ100 مليون متر مكعب يستفيد منها في ري حوالي 136 ألف دونم جنوب طبريا.
ولسنوات عديدة، سحب الكيان الصهيوني فائض المياه من نهر اليرموك إلى بحيرة طبريا، ونفذ هذه العملية عبر قنوات ومحطات ضخ أقيمت على ضفاف النهر قبل التقائه بنهر الأردن. ولم يكتفِ بسحب مياه نهر الأردن، بل أطلق المياه المالحة والعادمة فيه عمدًا ونتيجة بعض المشاريع التي أقامها على ضفافه، مما حد من استخدام مياه النهر في الزراعة إلا بعد خلطها بمياه جوفيه أو بمياه السدود. وخلال حروب الاستنزاف، قصف الكيان الصهيوني قناة الغور الشرقية عدة مرات.
وقبل كل ذلك، عرقل المشاريع العربية الساعية لاستغلال مياه نهري الأردن واليرموك، فأفشل مشروع ماكدونالد سنة 1950 والذي خطط لتحويل مياه نهر اليرموك إلى بحيرة طبريا، وبناء قنوات مائية للري في وادي الأردن ومنع الكيان الصهيوني من تحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب. وأفشل مشروع بونجر سنة 1953 الذي هدف إلى بناء سد على نهر اليرموك بسعة تخزينية قدرها 500 مليون متر مكعب للري، وتوليد الكهرباء ولمنع تخزين مياه النهر في بحيرة طبريا. وأفشل الاتفاق السوري الأردني لاستغلال مياه نهر اليرموك عبر إقامة سد مشترك عليه (سد المقارن) سنة 1953 (لاحقًا سنة 2004 تمكن سوريا والأردن من الاتفاق على بناء سد الوحدة في منطقة المقارن بسعة تخزينية قدرها 115 مليون متر مكعب، بحيث تذهب المياه للأردن وتحصل سوريا على الكهرباء التي يولدها المشروع).
جاء كل ذلك بعد حرب حزيران التي مكنته من احتلال منابع نهر الأردن الشمالية وروافده وبحيرة طبريا وروافد نهر اليرموك العليا التي تلتقي بنهر الأردن، لكنه لاحقًا أيضًا تمكن من إخراج كل هذه المنابع والروافد التي احتلها من مفاوضات اتفاقية وادي عربة، واستنزف منطقتي الباقورة والغمر الغنيتين بالمياه خلال استئجارهما لمدة 25 عامًا.
ثم يأتي اتفاق جديد مثل هذا، ويحدث مزيدًا من
خرق الأمن الوطني، ومزيدًا من ضغوط التسويات السياسية لصالح الكيان الصهيوني ضد الأردن
والمنطقة العربية بأكملها. والنظام السياسي الذي يتبجح دومًا بوصايته على القدس،
ورفضه للوطن البديل، لا يكف عن تقديم التنازلات التي تجعل من الوصاية مجرد ديكور
للتغني في المحافل الدولية، ولكسب الريع الجيوسياسي.
هكذا، يرى الناظر إلى حالنا اليوم نتيجة مخزية
لكثير من الأسباب الجذرية التي أوصلتنا إليه. فمسار الاستسلام للكيان الصهيوني،
والقبول بالسلام، والتبعية السياسية لأميركا -الداعم الأول للكيان الصهيوني- هو ما
جعلنا في موقع الضعف حتى من التفاوض على شروط أفضل للتطبيع، شروط تحافظ على شيء من
السيادة الوطنية التي استبيحت. والسيادة الوطنية هنا تعني حياة الشعب و«حرب الشعب»
وأمن البلد من العدو الأول لهما، وإرادة الناس –وهي إرادة سياسية حقًا– في عيش
أفضل عبر امتلاكهم لمواردهم وتمكنهم من ممارسة سلطتهم عليها، وهذه السلطة لن تتحقق
تمامًا ما دام هذا الكيان السرطاني مزروعًا في الخاصرة العربية، فكيف إذا تعاطينا
معه وسلمناه رقبتنا وجعلناه يتحكم في الطاقة والمياه.
أكثر من ذلك، فإن النهج النيوليبرالي الذي شل
حركة البلد برعاية صندوق النقد والبنك الدوليين التابعين لإرادة الإمبريالية
الرأسمالية بقيادة أميركا، هو سبب كبير آخر للحال الذي وصلناه، وهو سبب متشابك مع
الأسباب التي سبق ذكرها، بالأساس. إذ في بلد يعيش على الريوع الجيوسياسية
(المساعدات) والقروض والضرائب غير المباشرة، وينأى عن الاستثمار الإنتاجي وينسحب
من أداء دوره الاجتماعي، فإن خيار حل أزمة المياه القديمة جدًا يأتي في آخر هرم
الأولويات، ويؤجل دومًا، ويعالج بشكل مؤقت واعتباطي وبعيدًا عن مواجهة النهب
الإقليمي، حتى وصلنا إلى هنا، إلى أخذ مياهنا المسروقة بشروط الهيمنة التي يفرضها
الكيان الصهيوني الغاصب.