فتحت جائحة كورونا سؤالًا كبيرًا عن دور الدولة في الاقتصاد. وفتحت سؤالًا عن دورها في قطاعات الصحة والتعليم تحديدًا بعد تفشي الفايروس وفرض الإغلاقات. ربما دار السؤال هذا في كل العالم بعد تجربة الصين في مواجهة الفايروس. دار محليًا أيضًا، في ظل نسبة الوفيات الكبيرة إلى نسبة الإصابات، ونقص الكوادر الطبية المدربة، ونقص الأجهزة والمعدات، وقلة عدد المستشفيات العامة نسبة إلى عدد السكان. مؤكد كذلك أن كل العائلات ناقشت السؤال ذاته وهي تعاني تعس تجربة التعليم عن بعد، ونفخها بنجاحات وهمية كالعادة من قبل المسؤولين. أما من فقدوا وظائفهم، أو قلصت رواتبهم، ومن زادت ساعات عملهم «عن بعد»، ومن يعتمدون في عملهم على القطاع غير الرسمي، فقد ذاقوا مرارة الجواب بجلودهم. لكن، ولأن الطبقات الشعبية غير مسيسة، ولا تستطيع أن تقول «لا» بشكل عمليّ للنظام السياسي-الاقتصادي السائد وأبطاله من القلة الكمبرادوريين، و«لا» أكبر منها لمن يقفون خلف هذا النظام في الإمبريالية المعولمة بقيادة أميركا، فإن الدولة ستظل على حالها. جهاز ينقل «القيمة» من تحت إلى فوق، فيما أكثر «القيمة» تمتصه أميركا عبر سيطرتها على دول العالم الثالث بما فيها دولتنا. وحين تسمع في سهراتك اليومية من يقول إننا نعاني من «قلة القيمة»، فإنه يتحدث بنفس اشتراكي من حيث لا يدري. لكن المسألة هنا، أن يتحول القول إلى فعل منظم.
أسئلة كثيرة تتردد مع لعنات من سوء الحال: ماذا تفعل الدولة؟ أين دورها الاجتماعي؟ لكن الجواب يشع مثل طعنة في ظهر الشعوب: الدولة مجرد أداة من أدوات رأس المال الكمبرادوري التابع للرأسمالية العالمية بقيادة أميركا، وهي مجرد جهاز يمارس العنف والقمع لتمرير سياسات النهج النيوليبرالي: فقر، وبطالة، وغلاء أسعار، وإلغاء دعم السلع الاستهلاكية الأساسية، وحرق الاقتصاد الإنتاجي، وانسحاب الدولة من أداء دورها الاجتماعي، وفتح حسابات رأس المال والتجارة، وربط العملة الوطنية بالدولار. كلها وصفات لطعن الطبقة العاملة في ظهرها، وتركيز الثروة في يد القلة التابعة محليًا وأسيادها المتحكّمين بها في الخارج.
بين نارين: رحلة مع الأرقام
ينقسم قطاع الخدمات إلى: خدمات عامة وخدمات خاصة. تشمل الخدمات العامة: التعليم والصحة والبنية التحتية ومؤسسات الدولة الخدمية الأخرى وغيرها، وقد شكلت سنة 2017 ما نسبته 13.2% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما شكلت الخدمات الخاصة ما نسبته 53.4% من الناتج المحلي الإجمالي وتشمل: التجارة والمطاعم والفنادق (11.6%)، النقل والتخزين والاتصالات (17.5%)، خدمات مالية وعقارية وأعمال (24.3%).
من ناحية أخرى، ارتفعت نفقاتنا العامة من
5.7 مليار دينار في 2010 إلى 9 مليار دينار في 2019. وتتكون النفقات العامة من
شقين:
نفقات جارية: وهي نفقات تشغيل تتكرر سنويًا لتحافظ على استمرار أعمال الحكومة،
وأبرز مثال عليها رواتب موظفي الدولة مدنيين وعسكريين، والحاجات اللوجستية للمؤسسات
الحكومية وغيرها.
نفقات رأسمالية: وهي نفقات تزيد رأس المال
الحكومي عبر مشاريع تطوير البنية الاجتماعية
مثل التعليم والمستشفيات والمدارس (قطاعي الصحة والتعليم)
وفتح الطرق وإنشاء الجسور (البنية التحتية)، إضافة إلى مشاريع إنتاجية في قطاعي
الزراعة والصناعة تزيد الدخل وتؤمن الوظائف وتقلل نسب الفقر وتحرك السوق.
ارتفعت النفقات الجارية من 4.746 مليار سنة 2010 إلى 7.968 مليار سنة 2019، وكانت نسبتها تتراوح حول 26% من الناتج المحلي الإجمالي. والناتج المحلي الاجمالي هو قيمة جميع السلع والخدمات النهائية داخل دولة ما خلال فترة زمنية محددة، ويعكس الحالة الاقتصادية للدولة عبر تقدير حجم الاقتصاد ومعدل النمو لهذه الدولة ولكنه لا يعكس عدالة التوزيع.
أما النفقات الرأسمالية فظلت ثابتة بين عامي 2010-2019 حول المليار دينار سنويًا فقط، وبنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهي نفقات ضئيلة سواء أخذناها كنسبة أو كرقم مطلق. لهذا لا نلحظ أي تطور على حياة المواطن مقارنة بالنمو السكاني، ونرى تراجعًا في الخدمات الاجتماعية نتيجة لانسحاب الدولة من أداء دورها في ظل النهج النيوليبرالي الذي يسيطر عليها. كما أن ما تم بناؤه في الماضي تهالك وتراجع، ودخل القطاع الخاص في قطاعين لا ينبغي أن يدخلهما وهما التعليم والصحة. يأتي كل هذا ونحن نعيش في اقتصاد طفيلي يحتل فيه القطاع الثالث (قطاع الخدمات) 67% من الناتج المحلي الإجمالي، يذهب ما نسبته 54% منها للخدمات الخاصة بينما تحتل الخدمات الحكومية العامة ما نسبته 13%، ويتجه أصحاب الأموال فيه إلى التجارة كونها أقل خطورة وأسرع ربحًا من الإنتاج، مما يغرق السوق بالبضائع الأجنبية ويضرب المنتج الوطني ويحرمه من التنافس نتيجة لارتفاع فاتورة الطاقة والضرائب، ويزيد التضخم الذي يأكل أجور الطبقة العاملة ليحولها باتجاه معاكس نحو طبقة التجار.
باختصار، يمكن القول إن لدينا تشوهًا في النفقات ناجم أساسًا من تشوه الاقتصاد، فنسبة النفقات الرأسمالية من الميزانية انخفضت من 16.8% سنة 2010 إلى 11.8% سنة 2019، بينما ارتفعت النفقات الجارية من 83.2% إلى 88.2%، وتوزعت كالتالي: 31% للأجهزة الأمنية والعسكرية. 26% للجهاز المدني. 17% لفاتورة التقاعد والتعويضات. 11.6% فوائد الدين االعام التي ارتفعت من 397 مليون سنة 2010 إلى مليار و50 مليون سنة 2019. و14.4% تذهب لمصاريف جارية أخرى.
بشكل عام، يمكن القول إن هناك زيادة في الإنفاق العسكري. وجهازنا المدني صحيح أنه ليس رشيقًا لكنه ليس متضخمًا إجمالًا، أي أن هناك ترهلًا في مؤسسات معينة على حساب نقص الإنفاق الجاري والرأسمالي في مؤسسات أكثر أهمية في قطاعي الصحة والتعليم مثلًا، إضافة إلى أن مجمل المؤسسات الحكومية هي مؤسسات خدمية لا تولد الدخل الإنتاجي. ولو أخذنا الإحصاء الرسمي بأن نسبة موظفي القطاع العام من مجمل الموظفين هي 40.2%، لقلنا حقًا إن لدينا تضخمًا في القطاع العام، لكن هذا لا يستقيم مع وجود بطالة رسمية قدرها 23.2%، ومع وجود قطاع غير رسمي يعمل بأجور زهيدة تصل إلى حد الفقر ونسبة العاملين فيه تصل إلى 41% من إجمالي العاملين في الأردن، حسب منتدى الاستراتيجيات الأردني (حوالي 932,743 عامل). عندها، ومع أخذ القطاع غير الرسمي بالحسبان، واعتبار العاملين فيه عاطلين عن العمل فعليًا، تقفز البطالة إلى 50% تقريبًا. ومع نسبة بطالة مرتفعة مثل هذه، تكون نسبة العاملين في القطاع العام –حكومة مركزية وجيش وأجهزة أمنية وبلديات ومؤسسات مستقلة (حوالي 650,000 عامل)- من عدد العاملين والعاطلين عن العمل (ما يقارب 2,600,000) حوالي 25% تقريبًا، وهذه نسبة طبيعية جدًا.
بذا، فالحل لا يكمن في تقليص عدد موظفي الدولة المدنيين كما يطرح بعض الباحثين النيوليبراليين منهم واليساريين، لكنه يكون عبر توزيعهم بشكل صحيح وخرطهم في قطاعات إنتاجية تدر الإيردات للدولة بدلًا من اعتمادها على الضرائب (خاصة غير المباشرة منها) والقروض والمساعدات، إضافة إلى دمج ما يحتاج لدمج من الهيئات المستقلة وإلحاقها بالوزارات.
إن تشوه النفقات حلقة صغيرة من حلقات الخلل، فالخطوة الأهم تكون عبر تحسين الإيرادات حتى نتمكن من الحفاظ على النفقات الجارية (أو زيادتها)كرقم مطلق مع تقليل نسبتها في الناتج المحلي الإجمالي، فيما نرفع نسبة النفقات الرأسمالية والنفقات الجارية الموجهة للخدمات الاجتماعية في دورة متصلة تؤدي لبعضها بين الإنفاق والإيراد. لكن من ينظر في الإيرادات العامة يجد أنها شكلت ما نسبته 79% من النفقات العامة سنة 2020 (الباقي من القروض والمنح)، منها 71% للضرائب المباشرة (ضريبة المبيعات)، و29% ضريبة غير مباشرة تنقسم كما يلي: 15.6% ضريبة الدخل على الشركات، و5.5% ضريبة التجارة الدولية و7.7% ضرائب على الأفراد والمعاملات. أي أن النظام الضريبي مشوه ويستهدف جيوب الفقراء من خلال الضريبة المباشرة، بينما لا يستهدف الأغنياء والشركات الخاصة من خلال قانون ضريبة عادل يقلل ضريبة المبيعات على السلع الأساسية، ويزيد من ضريبة الدخل فيجعلها تصاعدية بناء على الدخل الشهري للأفراد والأرباح السنوية للشركات، مع أخذ طبيعة القطاع بعين الاعتبار؛ فيقلل الضريبة على الزراعة والصناعة، ويرفعها على القطاعات الخدمية من جهة أخرى. بالطبع، هذا لا يحل بجرة قلم ولا بجرد حساب سريع، فهو يتعلق بوجود إرادة سياسية حقيقية لذلك، وتخطيط يعيد هيكلة الاقتصاد بشكل بنيوي، وفي كيفية الوصول إلى أفضل الممكن لدولة بحجم دولتنا ومساحتها وموقعها. إنه يتعلق بسؤال عن ضرورة وجود اقتصاد يقوم على الإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجي، ويهتم بقطاعات الخدمات الاجتماعية التي تتمثل بالتعليم والصحة والبنية التحتية، ويمكن الطبقات الشعبية من تنظيم نفسها وممارسة سلطتها على مواردها. شيء مثل هذا، ينبغي أن يقوم على استراتيجية تربط التنمية بالأمن الوطني والسيادة الوطنية، فلا سيادة وطنية ما دامت الطبقات العاملة مكشوفة في وجه رأس المال.
واقع الخدمات الاجتماعية العامة: انسحاب غير تكتيكي
إن قطاعات الصحة والتعليم يهمان الناس، ويشكلان عاملًا أساسيًا في تحسين حياتهم وفي النهوض الحضاري. بمعنى أن التنمية تقوم على الإنتاج المعرفي، وهذا يحتاج تعليمًا جادًا وصحة جسدية ونفسية في المجتمع.
في آخر عشر سنوات، كانت نفقات الصحة بشقيها (المدني والعسكري) تشكل ما معدله 9.8% من الميزانية سنويًا (740 مليون دينار)، معظمها نفقات جارية بنسبة 87% (643 مليون دينار)، ومنها ما معدله 57.5 مليون للنفقات الرأسمالية لوزارة الصحة (7.8%) و40 مليون للخدمات الطبية الملكية (5.4%). أما نفقات وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي فكانت بمعدل 12.1% سنويًا (917 مليون دينار) معظمها جارية أيضًا بنسبة 91% (833.4 مليون دينار)، منها ما معدله 83.6 مليون للنفقات الرأسمالية (9%).
ومع أن النسبة الأعلى للإنفاق تذهب للجاري على حساب الرأسمالي في هذين القطاعين، إلا أنه بشقيه منخفض جدًا ولا يلبي حاجات المواطنين، بل إنه يتناقص مع الوقت إذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار، وهو تضخم مدفوع بانفتاح حساب رأس المال والدولرة. فإذا ما نظرنا مثلًا إلى نفقات الصحة العامة وجدناها ثابتة تقريبًا على مدار السنوات الماضية، لكن قيمتها تتناقص فعليًا، رغم أننا منذ سنتين في ظرف استثنائي يتطلب زيادة الإنفاق لمواجهة جائحة كورونا.
نتيجة لهذا الإنفاق المنخفض، هناك نقص في الكوادر الطبية رغم وجود أفواج كبيرة من حاملي الشهادات، وتدنٍ في الرواتب، ونقص في الأجهزة والمعدات إضافة إلى قلة المستشفيات الحكومية وإهمال المراكز التي تقدم خدمات الرعاية الصحية الأولية. كل هذه المشاكل تصب بصالح القطاع الخاص. وقد خلق هذا الواقع سوءًا في الوضع الصحي لعموم الناس، وبطالة في الكوادر الطبية، وجعل الأطباء يبحثون عن الاختصاص بدون أجر أو عبر الدفع من جيوبهم للمستشفيات الخاصة والعسكرية، وأدى إلى هروب من تقطعت بهم السبل أو أولئك الذين يبحثون عن تحسين وضعهم المادي إلى دول الخليج العربي وأميركا وألمانيا للاختصاص والعمل، بينما اغتنت طبقة من الأطباء التجار في القطاع الخاص.
بالمثل، ينطبق ما سبق على التعليم. فهناك نقص في كوادر المعلمين، وازدحام في الغرف الصفية، وتهالك في البنية التحتية للمدارس وواقعها، وتردٍ كبير في الواقع المعيشي للمعلمين. فراتب المعلم المنخفض لا يؤمن له أدنى درجات العيش الكريم، وهذا ينعكس على قابليته وحماسه في إعطاء أفضل ما لديه، وحتى لو رغب بذلك فإن ازدحام الطلبة في الصف الواحد لن يسمح له برفع سويتهم معرفيًا، إضافة إلى طبيعة نظام التعليم الذي يقوم على التلقين والحفظ ويبتعد عن البحث والتحليل واكتشاف المهارات والميولات وتحفيز العمل الإبداعي والرياضي والمهني. بهذا، فإن المعلم ينتظر فرصة في الخارج، ويبحث عن التعليم الخصوصي في البيوت. ومن هذا الواقع أساسًا، انتفض المعلمون عام 2010 وأسسوا نقابتهم، وانتفضوا مرة أخرى عام 2019 وتمكنوا من تحصيل علاوة زهيدة على رواتبهم إضافة إلى حقوق أخرى تجعلهم شركاء في العملية التعليمية لا مجرد موظفين. لكن النظام السياسي عاد وانقض على النقابة وحل مجلسها وجمد عملها، ذلك أن وجود نقابة تمثل الناس وتشبههم، وحين تطلب لنفسها إنما تهيء لهم السبيل ليطلبوا لأنفسهم وتفتح الميدان السياسي للتنظيم والخروج للشارع، وجود مثل هذه النقابة يهدد النظام السياسي ويرعبه، والأفضل أن يبعد مثل هذا الكابوس عن وجهه ويقص أجنحته حتى لا تنبت أجنحة للآخرين. من هذا المناخ، تكاثرت المدارس الخاصة بعد أن كان الشعب الأردني ينظر لها قديمًا على أنها ملاذ للطلبة غير المجتهدين، وصارت سببًا لهجرة الطلبة من المدارس الحكومية بحثًا عن تعليم أفضل. وهذه المدارس تستغل المعلمين العاطلين عن العمل وتقدم لهم رواتب تدور حول الحد الأدنى للأجور، أقل أو أعلى، بدلًا من أن تستقطبهم الحكومة وتضع خطة مدروسة تعيد النظر في النظام التعليمي بشكل كامل وجذري.
أما الجامعات الحكومية منها والخاصة فليست سوى مشروع يدر الأرباح، بدل أن تكون مجانية للجميع. فرسوم الساعة الجامعية على نظام التنافس مرتفعة في أغلب الجامعات، كما أن ظهور نظام الموازي الذي يدعم من يملكون المال، على حساب الفقراء، شكل خرقًا للتنافس الشريف على التخصصات. ولأن نسبة التعليم عالية في المجتمع الأردني، فإن هناك مشكلة تتمثل في فائض الشهادات لكل التخصصات الذي لا يستوعبه سوق عمل صغير لا يوجد فيه إنتاج حقيقي ولا تكامل اقتصادي مع الدول العربية الأخرى. لقد كان افتتاح أول جامعة خاصة عام 1990 بداية لمحاربة التعليم المهني وكليات المجتمع، مما أدى لتحويلها بشكل تدريجي إلى كليات جامعية تتبع جامعة البلقاء. وكان للتوجه النيوليبرالي الذي خرب الزراعة، وحد من إمكانية التطور الصناعي، أثر أساسي في تقليص الوظائف المتاحة لحاملي الشهادات، وساهم في توجيههم نحو تخصصات كانت تدر راتبًا جيدًا في أسواق خارجية مثل دول الخليج، وهي التخصصات التي تتعلق بالتعليم والهندسة والطب. كل هذا خرب نوعية التعليم الجامعي، وحد من القدرات العلمية للطلبة، وفاقم البطالة والفقر وقلل من سلم الرواتب، فأنت في سوق عمل مفتوح على آلاف مثلك، وإذا لم تقبل بوظيفة لأن راتبها زهيد فإن هناك مئات ممن سيقبلونها تحت ضغط التعطل عن العمل.
وإذا نظرنا إلى البنية التحتية نجدها ليست أفضل حالًا، فهناك ترد في الشوارع. قلة في المكتبات العامة، إذ ليس هناك سوى المكتبات العامة التابعة لأمانة عمان في العاصمة، والمكتبات التابعة للبلديات في المحافظات وهي مكتبات مغلقة في أغلب الأحيان وتعاني من قلة الكتب والمصادر ومن قدمها أيضًا. شح في المساحات العامة والحدائق نتيجة عدم التخطيط. وهناك مشكلة كبرى في النقل، إذ أدى تسهيل الاقتراض من البنوك لشراء السيارات، وتخفيض التعريفة الجمركية عليها، وغياب النقل العام الفعال الذي يهدف إلى خدمة الطبقات الشعبية عبر تعريفة منخفضة ومسارات سريعة تغطي الأحياء وتسهل عملية التنقل داخل المحافظات وبينها؛ أدى ذلك إلى اكتساح التكاسي وشركات التطبيقات الخاصة والنقل غير الرسمي، إضافة إلى هذا الكم الهائل من السيارات الخاصة التي نفعت البنوك، وحملت الناس ديونًا فوق طاقتها، وأشاعت ثقافة الاستهلاك وجعلت الازدحام عنوانًا رئيسًا كل يوم في عمان نتيجة مركزيتها بما يخص العمل إضافة إلى تضخم سكانها إلى خمس ملايين نسمة (أي ما يقارب نصف سكان الأردن).
إذن، هذا الإنفاق المنخفض بشقية الجاري والرأسمالي ينبع أساسًا من تشوه الاقتصاد الطفيلي الذي يحكم الدولة ويقودها من ذيلها، وهو سبب تردي مستوى الخدمات الحكومية في الصحة والتعليم، وهو الذي فتح بابًا للقطاع الخاص في هذين القطاعين، ومكن من يملكون السلطة من تملك المال ومن يملكون المال من استلام دفة السلطة. بالمثل، ينطبق ذلك أيضًا على نفقات البنية التحتية التي تتآكل يومًا بعد يوم. وكل هذا يستنزف أموال الناس على أساسيات ينبغي أن تقدم بالمجان لهم ومن خلال القطاع العام.