قرار محكمة العدل الدولية بخصوص الإجراءات التحفظية العاجلة لمنع ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة
(إنشائيات عاطفية تفتح الباب أمام المجرم لشرعنة جرائمه)
مقدمة:
كان العالم على موعد مع جلسة محكمة العدل الدولية الجمعة الموافق 26/1/2024 للبت في طلب جنوب أفريقيا المتعلق بإلزام الكيان الصهيوني باتخاذ إجراءات تحفظية عاجلة لحماية حقوق الشعب الفلسطيني في غزة باعتباره “أحد المجموعات المحمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.
وعلى الرغم من معرفة الجميع بأن أية أحكام صادرة عن هذه المحكمة ستكون أحكاماَ شكلية أكثر منها أحكاماً تشكل فارقاً في واقع الصراع، فهي في أحسن الأحوال نوع من “الإحراج” السياسي لكيان العدو أمام المنظومة الأخلاقية المصطنعة والمشوهة التي يدعي الغرب تبنيها ويهدف من خلالها إلى إضفاء الشرعية على استدامة مشروعه الاستعماري في العالم، فيعتب أصحاب هذا المشروع على حكومة العدو لأنها تحرجهم أمام العالم، فقد كان هناك من يمني النفس بقرار -ولو شكلي- يثبت أحقية ومشروعية النضال الفلسطيني في وجه هذا الاحتلال الاستعماري، على الرغم من أن هذه المشروعية قائمة بحد ذاتها والأدلة عليها أكثر من أن تعد وتحصى لكل من يرغب برؤيتها، ولا يعدو هذا الحكم -في حال صدوره- كونه كاشفاً لهذه المشروعية أمام الغرب المعصوب العينين بفعل آلته الإعلامية، لا منشئاً لها.
لكن يبدو بأن المؤسسات الدولية التي تعد أحد مظاهر النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنها محكمة العدل الدولية، أعجز حتى عن إصدار حكم قضائي متكامل رصين يشكل سنداً -ولو معنوياً- للحق في مواجهة الظلم، فقد كان حكم المحكمة مليئاً بالتباكي العاطفي المصطنع والديباجات القانونية الشكلية، دون أن يربطها بالوقائع موضوع النزاع، حتى وإن كان هذا الحكم من الأحكام الإعدادية غير المنهية للخصومة، فهو يتعلق بإجراءات تحفظية يجب تطبيقها -افتراضياً- على أرض الواقع، لا أن تكتفي بسرد لنصوص قانونية عامة يتفق عليها الأطراف ويختلفون في تفسيرها واقعياً.
نواقص في مشتملات الحكم:
بدأ الحكم كما كان متوقعاً في كل ما يتعلق بالدفوع الشكلية الخاصة باختصاص المحكمة في نظر الدعوى، وخلصت المحكمة إلى النتيجة المتمثلة باختصاصها في نظر الدعوى المقامة من جنوب أفريقيا في مواجهة كيان العدو، ومن ثم استعرضت الوقائع التي تقدمت بها جنوب أفريقيا أمام المحكمة كأساس على صحة الادعاء بارتكاب كيان العدو لجرائم إبادة جماعية في غزة، بدءاً من هجوم 7 أكتوبر وما تلاه من عمليات عسكرية شنها ويشنها كيان العدو في غزة وضد سكانها براً وبحراً وجواً، ولما نتج عن هذه العمليات من قتل وجرح وتدمير للبنى التحتية ونزوح لمئات الآلاف من الفلسطينيين، وما رافق ذلك من تصريحات لمسؤولين صهاينة تعتبر من قبيل التحريض على الإبادة الجماعية، مثل تصريح وزير دفاع العدو غالانت حين وصف الفلسطينيين بأوصاف تنزع عنهم صفتهم البشرية والآدمية. ثم تطرقت المحكمة إلى اختصاصها في تفسير وتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ثم بدأت باستعراض أهم النصوص الواردة في هذه الاتفاقية والتي لها علاقة بموضوع النزاع، بما في ذلك تعريف جرائم الإبادة الجماعية وأشكالها والأفعال المرتبطة بها، والواردة في المادتين 2 و3 من الاتفاقية، كما خلصت المحكمة إلى أن الفلسطينيين يعدون “مجموعة محمية” بموجب هذه الاتفاقية وبالتالي فإن أية أفعال ينطبق عليها التعريف الوارد في الاتفاقية ترتكب ضد هذه المجموعة تعتبر جرائم إبادة جماعية طبقاً للاتفاقية.
كل ما ذكر أعلاه كان متوقعاً وروده في الحكم، حتى وصلت المحكمة إلى الجزء الأهم والمتعلق بالإجراءات التحفظية التي يجب على كيان العدو تطبيقها لحماية حقوق الفلسطينيين من أفعال قد تصنف لاحقاً على أنها من جرائم الإبادة الجماعية، وقد أوردت المحكمة الأساس الذي تنوي بناءً عليه اتخاذ هذه التدابير، بأنها ترى بأن هناك حاجة ملحة، وخطراً محدقاً وضرراً لا يمكن إصلاحه، يستدعي اتخاذ تدابير تحفظية مؤقتة قبل الوصول للحكم النهائي، مما يعني بالضرورة أن هذه التدابير والإجراءات يجب تتسم بالطابع العملي الدقيق القابل للتطبيق على أرض الواقع، وبالتالي ينبغي أن تكون محددة تحديداً نافياً للجهالة لا يفتح الباب للتفسير والتأويل.
بالعودة إلى لائحة الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا، نجد بأنها قد تقدمت بطلب يشمل تسعة أنواع من التدابير التحفظية في مقدماتها وقف الأعمال العسكرية في غزة وضدها، وعمل حكومة العدو على اتخاذ كافة التدابير التي تضمن أن جيشها وكافة الجماعات المسلحة المنضوية تحتها أو التي تأتمر بأمرها لا تتخذ أية إجراءات تهدف إلى استكمال أو استدامة هذه الأعمال العسكرية، ومن ثم بدأت بسرد الطلبات ذات الصيغة العامة المتعلقة بعدم ارتكاب أية أفعال تعتبر من قبيل جرائم الإبادة الجماعية بأنواعها.
أما في حكم المحكمة، فنجد بأنه قد تجاهل النقطتين الأوليين من التدابير التي طلبتها جنوب أفريقيا والتي تمثل أساس الطلب وجوهره ومضمونه، واكتفت بسرد الطلبات العامة بطريقة لا تعدو كونها إعادة قراءة لنصوص الاتفاقية العامة دون أي ربط بينها وبين الواقع، وبالتالي فقد أفرغت هذه التدابير من محتواها العملي لتصبح أقرب إلى تصريح سياسي لا يختلف تصريحات أنتوني بلينكين التي يطالب فيها العدو باتخاذ إجرائات لحماية المدنيين في غزة، ما تأكيده على حق كيان العدو في الاستمرار بالعملية العسكرية.
إن هذا التجاهل، إنما يعد مخالفة للنظام الأساسي للمحكمة والذي ينص في المادتين 55 و 56 منه على أنه على المحكمة البت في جميع المسائل المعروضة عليها بالأغلبية، كما عليها بيان الأسباب التي تبني عليها أحكامها، وبالتالي فإن البت في هذه المسائل يكون إما إيجاباً، باستعراض الأسباب الموجة لاتخاذ التدابير، أو سلباً ببيان الأسباب التي دعت المحكمة لرفض اتخاذ هذه التدابير، وهو ما لم تتطرق له المحكمة في حكمها نهائياً، بل اكتفت بذكر أن التدابير التي ستحكم بها “لن تكون مطابقةً لما وردت في لائحة الدعوى”، مما يشكل عيباً في قرار الحكم وقصوراً في تسبيبه.
إن المحكمة في حكمها الصادر اليوم قد خالفت ما درجت عليه في أحكام كثيرة سابقة، ومنها ما كان يخص تدابير تحفظية كذلك، فقد امتازت أحكامها السابقة بالدقة والابتعاد عن التعميم وإلزام اطراف الدعاوى بتادبير محددة وواقعية وقابلة للتطبيق، وكانت تسبب رفضها لأية تدابير أخرى يطلبها أحد الأطراف في دعوىً ما، وهو ما لم يشتمل عليه حكمها الصادر اليوم في هذه الدعوى، مما يفرغ هذا الحكم من مضمونه ويجعله مثاراً للتأويل والتفسير بين أطراف الدعوى، بدل أن يلبي الهدف الرئيسي منه وهو تفسير النصوص القانونية وتطبيقها على الواقعة موضوع النزاع، والبناء على ذلك بإلزام الأطراف باتخاذ إجراءات عملية لا لبس في فهمها ولا توسع في تفسيرها ولا مجال لإفراغها من محتواها.
ولا يمكن فهم هذا التغير في نهج المحكمة إلا أنه في سياق مقصود يهدف إلى تجنب الزوايا الحادة ونقاط الخلاف الأساسية التي تهم كيان العدو، فإن نهج التعميم الذي انتهجته المحكمة كان واضحاً في كل ما يجب على كيان العدو القيام به، ولكنه اختفى فجأة عندما ذكر الحكم الأسرى الذين أسرتهم المقاومة في السابع من أكتوبر فطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عنهم، وإن كان ذلك قد ورد في متن الحكم قبل الدخول في الخلاصة التي تضمنت الإجراءات التحفظية.
حكم المحكمة في السياق السياسي:
كما ذكرنا سابقاً، فإن أهمية حكم المحكمة تتمثل في المساهمة بنوع من الضغط السياسي على كيان العدو للتوقف عن جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، إلا ان حكم المحكمة اليوم جاء عاماً ممجوجاً بلا جوهر ولا نتيجة ملموسة، فلا يكفي بأن الحكم ذاته صيغ بأسلوب خبيث يسرد الوقائع المتعلقة بالنزاع على أنها بدأت في السابع من أكتوبر، متجاهلاً كل ما سبق ذلك من احتلال واستيطان وتهجير مستمر منذ أكثر من 75 عاماً، مما يخدم الرواية الصهيونية التي تهدف إلى توصيف هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر على أنه “هجوم لم يسبقه استفزاز”، بل زاد عليه بتجاهل إلزام كيان العدو بوقف الأعمال العسكرية في قطاع غزة وضده، واكتفى بكلام عام وطلب من كيان العدو بأن يقدم خلال شهر تقريراً عن الإجراءات التي ينوي اتخاذها لمنع ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد أهل غزة دون بيان ماهية هذه الإجراءات، وبالتالي صار من السهل على العدو أن يقوم ببعض الإجراءات والمواربات الشكلية خلال العملية العسكرية لتسويقها كإجراءات لحماية الفلسطينيين من جرائم الإبادة الجماعية، وبالتالي تصبح هذه العملية العسكرية مستوفية لمتطلبات وشروط محكمة العدل الدولية وتحوز على شرعيتها، مما يعني بأن الحكم الذي كان يهدف بالأساس لوقف العملية العسكرية المجرمة ضد أهلنا في غزة، أصبح غطاءاً شرعياً لها طالما أنها تلتزم ببعض الإجراءات الشكلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فحق عندها لكيان العدو الاستمرار بهذه العملية حتى النهاية دونما رادع.
وعليه، فإن على جنوب أفريقيا المسارعة إلى تقديم طلب حسب أحكام المادة 60 من النظام الأساسي للمحكمة لطلب إيضاح من المحكمة حول ماهية التدابير والإجراءات التحفظية التي تم الحكم بها، بالإضافة إلى طلب تسبيب واف من قبل المحكمة حول رفضها للنقطتين الأولى والثانية والمتعلقتين بوقف الأعمال العسكرية في غزة وضدها، وذلك لقطع الطريق على العدو وعدم السماح له بتجيير هذا الحكم لصالحه في شرعنة جرائمه ضد أهلنا غزة.