– موقع عدالة وتحرر
عقيدة الصدمة هو الاسم الذي اختارته الكاتبة الصحفية الكندية نعومي كلاين لكتابها ذائع الصيت الذي تحاكم من خلاله الطور الأحدث من الرأسمالية في شكله النيوليبرالي، تدلل كلاين على عقيدة الصدمة بصعود رأسمالية الكوارث ذات النمط الطفيلي الذي يقتات على المصائب والحروب والمعاناة الإنسانية، وأدلل عليها هنا في صيغة لا تحمل اختلافا كثيرا، فما سبق ذكره يمكن إعادة صياغته ببساطة كأداة من أدوات التوحش الرأسمالي الذي يقع في صميم التكوين البنيوي للرأسمالية موضوعيا وتاريخيًا!
بنت كلاين قضيتها كما يجب، واستعملت البراهين والدلائل الدامغة التي ترافعت من خلالها موجهة التهم للنيوليبرالية التي قادتها أفكار الشيطان “ميلتون فريدمان”، في أروقة كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو محاطاً بصبيته الملتزمين بنهجه المدّعي للحرية، والمرتكز على توحش السوق وهمجية الربح!
خرج كتاب عقيدة الصدمة إلى النور في عام 2007، أي قبل أشهر قليلة من الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم، وأثبتت ما كان كارل ماركس قد تنبأ به حول الأزمات الدورية التي ستعصف بالرأسمالية، مع أن هذا الأمر الذي تنبأ به ماركس لم يهدد وجود الرأسمالية التي لطالما استطاعت تجاوز أزماتها عبر الالتفاف عليها وتطويعها.
قامت كلاين في الجزء الأول من كتابها بعرض الترابط بين الأبحاث غير القانونية التي كان يجريها بعض الأطباء النفسيين – وعلى رأسهم إيوين كاميرون – على المرضى، بغية إعادة تشكيل هوياتهم عن طريق استخدام الصدمات الكهربائية وكافة أشكال سحق الهوية النفسية والاجتماعية للمريض، وكيف استفادت منها وكالة الاستخبارات الأمريكية في عمليات الاستجواب التي كانت تقوم بها في منتصف القرن العشرين، ودربت عليها “فرق الموت” المنتشرة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وحتى في الوطن العربي.
مهدت كلاين لقضيتها الرئيسية “عقيدة الصدمة” عبر عرضها السيكولوجي هذا، محاولة ربط هذه العقيدة الرأسمالية بنوازع الشر لدى الانسان، تلك التي اعتادت الرأسمالية أن تقتات عليها وتوظفها لغايات الربح على حساب الإنسان كما يقول تشومسكي. انطلقت بعدها كلاين في رحلة تتبعت من خلالها خروج عقيدة الصدمة من أدراج مكتب ميلتون فريدمان في كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو، إلى أن أصبحت أحد أهم مبادئ النيوليبرالية التي جعلت من التشيليين فئران تجارب لها بعد انقلاب الدكتاتور أوغوستو بينوشيه على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، بمساعدة من وكالة الاستخبارات الامريكية وعبر ثلة من صبية شيكاغو الذين مهدوا لتغلغل هذه النيوليبرالية قبل أن يوظفوا انقلاب بينوشيه لفائدة ترسيخها كشكل أوحد للاقتصاد والسياسة في البلد الذي كان قبل ذلك يتجه بخطى ثابتة نحو النمط الاشتراكي الوطني!
ساقت كلاين العديد من الأمثلة على كل نمط من أنماط عقيدة الصدمة هذه، فمن انقلابات عسكرية كما هو الحال في العديد من دول أمريكا اللاتينية وأندونيسيا وغيرها، إلى حروب تهدف إلى إعادة تشكيل نمط الاقتصاد وفق مبادئ مدرسة شيكاغو كما هو الحال في غزو العراق، إلى أزمات مصيرية تغير من شكل الدولة كما هي حال روسيا المنعتقة من السوفييتات الشيوعية، أو كوارث طبيعية وفّرت الغطاء لإعادة تشكيل الحياة وفق النمط الفريدماني النيوليبرالي كما حدث في كارثة التسونامي، هذه الأمثلة المتعددة توضح أن كل هذه الخطوات تمت دراستها في تعاون واضح بين “السيستم” في أمريكا وأذرع الرأسمالية التي أعيد تشكيل بنيتها وفق الأيديولوجيا النيوليبرالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، لتخرج الرأسمالية بأرباح طائلة تبنى على الآلام والكوارث واستثمار الدكتاتورية وتوظيفها لقمع أي توجهات ديموقراطية أو وطنية!
كلاين المتفائلة كانت ترى في التعاضد الإنساني بعيد هذه الكوارث بارقة أمل قد تخطو خطوة نحو كف يد رأسمالية التوحش هذه، بينما كانت الرأسمالية تجهز نفسها للإفادة والتربح من الأزمة التي تقرع الأبواب. وإذ انتصرت إدارة ما بعد المتوحش النيوليبرالي”جورج بوش الابن”، عبر الرئيس “المثقف” باراك أوباما، للمؤسسات المالية التي تسببت في الأزمة العالمية، وقدمت لها الدعم المالي عن طريق بنك الاحتياط الفيدرالي الذي تموله ضرائب المواطنين، فقد ألقي قرابة مليون من هؤلاء المواطنين خارج بيوتهم وعقاراتهم لأنهم لم يستطيعوا سداد الديون المتربة عليهم لفائدة ذات المؤسسات المالية التي دعمتها إدارة أوباما. رغم هذا فإن ما طرحته كلاين في ختام كتابها يدلل على نفور الناس من هيمنة أيديولوجيات الرأسمالية المتجددة، ومحاولتها تشكيل وعيهم وفق الأنماط الاستهلاكية الرأسمالية التي تصور الحياة في ظل هذه الرأسمالية كمآل وحيد لمصير البشرية.
أشارت كلاين إلى تجربة الديموقراطيات الاشتراكية الشعبية في بعض دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل وفنزويلا وبوليفيا وغيرها، في تصور منها إلى أن حقبة هيمنة نيوليبرالية فريدمان قد بدأت في الخفوت بعد موت الرجل، وإلى إمكانية انعتاق عدة دول من نير هذه الهيمنة، لكن الحال اليوم يقول العكس إلى حد بعيد، فشهر عسل اشتراكية لولا وتشافيز وإيفو موراليس وغيرهم انتهى سريعاً، وفرص عودة الهيمنة النيوليبرالية المدعّمة بيمين معاد للانعتاق الوطني من هذه الهيمنة يخيم على هذه الدول. إذن، في إطار تغلغل النيوليبرالية في شكل وبنية الاقتصاد العالمي، وفي إطار إدراكنا إلى أن تعافيه من تبعاتها يحتاج عقوداً أخرى ربما تطول، بإمكاننا التدليل على أن إرث النيوليبرالية موجود في عمق النظام أكثر مما هو موجود في أفكار بضعة أفراد يهيمنون على السلطة، وهو ما سعت عقيدة الصدمة لترسيخه في اقتصاد وسياسة الدول التي دمرتها، لكن المقاومة الشعبية رغم كل هذا ما تزال متواصلة ضد أعوام الخطف والاغتيالات والبؤس والفقر والانقلابات العسكرية التي جلبتها النيوليبرالية، وهي مقاومة يعول عليها مثلما يعول على أية محاولة إنسانية للانعتاق من الظلم والدكتاتورية.