بين نقابة المعلمين والنقابات المهنية الأخرى

– موقع عدالة وتحرر

هل تساءل أحد لماذا نجح إضراب المعلمين؟ لما اجتمع جميع منتسبي النقابة العاملين في القطاع العام على قلب واحد في الاعتصام على الدوار الرابع، ولاحقًا في تنفيذ إضراب دام شهرًا كاملًا وتكلل بنجاحهم في انتزاع حقوقهم من فك التحالف الطبقي الفاسد؟ ربما يكون السؤال الأصح هو: لماذا وصلت مطالب المعلمين وتبنتها نقابتهم ممثلة بنقيبها وأعضاء مجالسها في العاصمة والفروع؟ سؤال مثل هذا يحيلنا إلى الفرق بين صنفين من النقابات المهنية بناء على شكلها في الأردن.

الناظر إلى نقابة المعلمين يجد أن جميع أعضائها متماثلون في التركيبة الطبقية، جميعهم عمال إما في القطاع العام أو الخاص، يتقاضون رواتب متقاربة إلى حد كبير، مصالحهم واحدة وحقوقهم واحدة وآلامهم أيضًا، وليس بينهم صاحب مدرسة كبرى أو مصالح اقتصادية تجعله منحازًا لخيار السلطة السياسية أو تؤهله ليكون جزءًا منها ضد أبناء نقابته. أغلبهم يعمل في القطاع العام، ذلك أن التعليم رغم كل ما تعرض له من خصخصة وتهالك على مدار العقدين الأخيرين إلا أن نسبة القطاع العام فيه ما تزال هي الأكبر حتى الآن. هذا كله يجعل المعلم قادرًا على تنفيذ الإضراب المفتوح، وعلى مقارعة الحكومة للحصول على أبسط حقوقه المشروعة التي تتمثل براتب يأمن له أدنى درجات العيش الكريم، وقرارات تحد من تغول المؤسسات الخاصة على دور وزارة التربية والتعليم، من دون أن يخاف من الفصل أو الطرد. لكن الناظر إلى المدارس الخاصة يجد أنها تمثل مصلحة مالكها الذي يهمه الربح فقط، وعلى حساب المعلمين الذي قد لا يتمكنون من المطالبة بتحسينات على أوضاعهم المعيشية ورواتبهم التي لا تتعدى في كثير من هذه المدارس حاجز ٢٥٠ دينارًا!

إذن نجحت نقابة المعلمين لأن جميع أعضائها متماثلون من الناحية الاجتماعية والمادية/الطبقية، ولأن أعضاء مجلس النقابة ليسوا من خارج هذا المجموع ولا يتمايزون عنه لا اجتماعيًا ولا ماديًا. من ناحية أخرى، ليست فقط أعداد المعلمين الكبيرة هي حجر الزاوية في ثقلهم التصعيدي هذا، بل إن تمثيلهم لقطاع شعبي عريض ولقاعدة اجتماعية كبرى في المجتمع الأردني لهو الأساس في قدرتهم على فرض ما يريدون. بذا فإن التقاءهم على حق من حقوقهم قادر على إرباك الحكومة وإعجازها عن المناورة بخفة في وجههم، فليس لها إلا أن تقابلهم بالقبضة الأمنية وأن تجيش ضدهم وسائل الإعلام «المدفوعة مسبقًا»، وأن تستثمر في بؤس الفقراء ليعتصموا في أعداد هزيلة ضد الإضراب وبطريقة مفتعلة ومكشوفة لكل الناس.

لكن الناظر إلى واقع النقابات المهنية الأخرى، مثل نقابة الأطباء والمهندسين، يجد أن هناك فروقًا طبقية شاسعة بين منتسبيها، وأن من يسيطر على مجلس النقابة هم أصحاب الشركات والرأسماليون الكبار الذين تتعارض فكرة النقابة المهنية والعمالية بالأساس مع مصالحهم وربحهم. بل لأن الاقتصاد والسياسة متشابكان وكل منهما يصب في مجرى الآخر، فإن كثيرًا منهم يتواطأ مع السلطة وتتواطأ السلطة معه ليحقق كل منهما مزيدًا من الأرباح على حساب سواد المنتسبين في النقابة ممن يعدون مجرد عمّال لا تتعدى رواتبهم حاجز الألف دينار في أحسن الأحوال، ويتقاضى معظمهم رواتب تتراوح بين ٤٠٠-٧٠٠ دينار. أما من ناحية أخرى، فلأن الخصخصة تنغل في أعمال هاتين النقابتين، ولأن أعداد المهندسين والأطباء العاملين في القطاع العام أقل منه في القطاع الخاص، فإن قدرتهم على التأثير أقل مقارنة بالمعلمين، ذلك أن أسهل قرار يمكن اتخاذه من قبل صاحب العمل هو الفصل حالًا وجلب عبيد جدد من طابور البطالة الطويل.

ربما يلتمع في رأس أحد هذا السؤال: لماذا نسميهم عمال؟ هم ليسوا كذلك؟ نصر هنا على تسميتهم مجرد «عمال» لأن تعريف العامل تغير بعد عولمة الاقتصاد، وبعد بزوغ الطور الثاني من الرأسمالية ممثلة بالنيوليبرالية المتوحشة التي تركز الثروة في يد قلة قليلة من المجتمع أكثر مما مضى، وتسمح باستعباد السواد الأعظم من الناس لتحقق ربحًا للطغمة الفاسدة التي تمسك بزمام الاقتصاد والسلطة معًا. لقد رافقت العولمةَ قوةٌ فتحت الحدود التجارية بين الدول الاستعمارية الكبرى والدول الضعيفة مثل دولنا، فتحولت هذه الأخيرة إلى سوق للأولى، وأُخذت ثرواتها وجُرّف أي شكل إنتاجي فيها، وأُجبرت على الاقتراض، فيما كان يساعد الدول الكبرى هذه طغمة فاسدة في الدول الضعيفة تهمها مصالحها فقط، ونخبة حاكمة عميلة لا حول لها ولا قوة إلا على شعوبها، فتحررت الأسعار وصرنا نرى من يعيش في دولة ذات اقتصاد بالغ الهشاشة مثل الأردن وهو يتقاضى راتباً يتناسب مع هذه الهشاشة البالغة فيما يشتري بأسعار دولة رأسمالية في أوروبا الغربية! إذن من يتقاضى راتبًا لا يتعدى ألف دولار هو عامل، وعليه أن يناضل في سبيل تحطيم هذه المنظومة السافلة التي تبسط يدها على كل العالم!

نعود إلى موضوعنا. إن لدينا شكلان من النقابات المهنية، يحيلانا إلى الأساس الذي تشكلت عليه هذه النقابات، ويطرحان علينا سؤالًا لا أجد له جوابًا إلا -مثلًا- بمنع أصحاب الشركات والمكاتب الهندسية من الانتساب إلى نقابة المهندسين. دونهم نقابة المقاولين ونقابة أصحاب المكاتب الهندسية ونقابة النصابين الكبار، لينتسبوا لها ويتركوا جموع العمال المهندسين يواجهون مصيرهم بأيديهم. وبالمثل، نفس الجواب ينسحب على نقابة الأطباء وعلى باقي النقابات غير المهنية الأخرى. أي بمعنى آخر، ينبغي لها أن تتحول إلى نقابات عمالية خالصة، لأن العمال قادرون على انتزاع حقوقهم بأيديهم، وعلى تنظيم شؤونهم الخاصة، فقط إذا لم يكونوا في نقابة تضمهم مع أرباب عملهم الذين يتواطؤون ضدهم.

أما بالنسبة للشكل الثاني من النقابات المهنية، أي نقابة المعلمين؛ فهي في ظل الوضع الراهن أقرب إلى نقابة عمالية منها إلى مهنية. حين تنص بعض قوانينها على ألا تتدخل في شؤون مهنة التعليم -سن المسار المهني مثلًا والمشاركة في إعداد المناهج- فهذا يعني أنها عمالية تمامًا، ناهيك طبعًا عن تركيبها الطبقي الذي يعطي لصراعها مع السلطة شكلًا عماليًا كما تم التوضيح سابقًا.

عن عدالة وتحرر

نحو عدالة اجتماعية وتحرر وطني

شاهد أيضاً

عن الزراعة في الأردن: تاريخها القريب وواقعها الحالي

– لوحة الفنانة إسراء صمادي منذ حكم الدولة العثمانية وحتى يومنا هذا لم يتطور قطاع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *