– موقع عدالة وتحرر
“نعم، متنمر الحي مجرد رجل.
يقول أعداؤه إنه يحتل أرضهم،
وهم يفوقونه عدداً: مليون مقابل واحد.
فلا يمكنه الهروب أو الركض إلى أي مكان.
إنه متنمر الحي.
كل إمبراطورية استعبدته زالت،
مصر وروما، وحتى بابل العظيمة
وها هو قد صنع من رمال الصحراء جنّة”.
هذه بعضٌ من كلمات أغنيةٍ كان ألفها وغناها الفنان الأمريكي بوب ديلان الحائز على جائزة نوبل للآداب، وهو أحد أهم رموز ثورة الستينيات عبر أغانيه الحماسية المناهضة للنظام الرأسمالي القائم وقتذاك، ولكنه في ذات الوقت صهيونيٌ ملتزمٌ بمشروع الكيان الاستيطاني اليهودي في أرض فلسطين المحتلة، ويمكننا عبر هذه المقاطع التعرف على جزءٍ من أفكاره الصهيونية تجاه دعم هذا الكيان الاحتلالي في وجه من يشردهم ويقتلهم ويحتل أرضهم.
هذا المتنمر “الصهيوني” يتلقى اليوم دعمه من متنمرٍ آخر يعدّ الكرة الأرضية برمتها مجالًا حيويًا لتنمره، فاليانكي الأمريكي يجد أن بإمكانه دعم المشروع الاستيطاني الصهيوني بغض النظر عن أي قواعد دوليةٍ أو سياسيةٍ أو إنسانيةٍ، ما دام هذا الكيان يحقق استدامة المصالح الإمبريالية كخليةٍ سرطانيةٍ في قلب العالم العربي، وبتواطؤٍ وعمالةٍ من الأنظمة العربية الرجعية المستبدة.
صفقة القرن لا تمثل نهاية التاريخ في إطار الصراع العربي-الصهيوني الوجودي، وإن كان الصهاينة يأملون أنها ستكون كذلك، خصوصًا في ظل حكم سلطةٍ هشةٍ ومتواطئةٍ مع الكيان، عبر ارتباطاتها الأمنية معه وعبر عرقلتها لأي شروعٍ في مقاومةٍ فلسطينيةٍ موحدةٍ تجاهه، ناهيك عن تربحها من الوضع القائم الذي يخدم مصالح النخبة التي كدّست السلطة والثروة بعد أوسلو وما تزال!
تجاوز اتفاقية أوسلو لم تكن بلا سوابق سواءً من قبل الكيان الصهيوني أو من قبل الداعم الإمبريالي الأمريكي، فتجاوز قرار التقسيم الذي صدر عام 47 تم بفرض القوة العسكرية عبر هزيمة نكبة 48 قبل أن تتبعها نكسة 67 بهزيمةٍ عربيةٍ جديدةٍ، هذا من الجانب الصهيوني، ولكن الجانب الإمبريالي كان له دورٌ حاسمٌ كذلك عبر تعطيل قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، والتلاعب بمصطلح اللاجئين وإلغاء حق العودة، وشن الحرب على الأونروا وغير ذلك الكثير. بالطبع لا نقول هذا تأييدًا لأي واقع تم فرضه بقوة السلاح لاحتلال الأراضي العربية، سواءً في فلسطين أو في سيناء أو في الجولان أو في جنوب لبنان أو حتى في الباقورة والغمر “سابقا”، ولكننا ندلل على سياقٍ تاريخيٍ لتجاوز وتخطي كل اتفاقٍ لصالح إنفاذ المشروع الصهيوني وتدعيمه، فنحن كما أحرار الأمة لا نؤمن بإمكانية بقاء هذا الكيان الاستيطاني العميل للإمبريالية بين ظهرانينا، ونرى مسألة إفنائه معركةً وجوديةً بالنسبة لأمتنا العربية.
أين يقف الأردن من الصفقة؟
الدعاية الرسمية الأردنية أكدت على تمسكها بالثوابت تجاه المصالح الوطنية وتجاه الحقوق الفلسطينية، دون أن تعلن رفضًا صريحًا للصفقة، فالنظام السياسي كما عبّر الملك: ينظر إلى النصف المملوء من الكأس، ولا يبدو أنه سيحاول إثارة الناس للاحتجاج كما حصل إبّان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكن خطابه هذا يبدو مخاتلًا تمامًا حين نشاهد إيغاله في مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتي دشّن أهمها مؤخرًا عبر إنفاذ صفقة الغاز، رغم كل المعارضة الشعبية والوطنية للصفقة ولمشاريع التطبيع. هنا نشاهد حرصًا رسميًا على إبقاء باب التبعية لأوامر الأمريكان مفتوحًا على مصراعيه، فكما نعلم تمت الصفقة بدعم ورعايةٍ (ضغطٍ مباشر) من القيادة الأمريكية (الديموقراطية ومن ثم الجمهورية)، وهو الأمر الذي يترتب عليه جعل الأردن مجالًا حيويًا لإنفاذ الصفقة ولتمرير المصالح الصهيونية كذلك.
إنّ اسقاط صفقة الغاز هو الرد العملي على رفض نظام الحكم في الأردن لصفقة القرن ولتصفية قضية العرب المركزية في فلسطين، وليس التأكيد على الرعاية الهاشمية للمقدسات فحسب، مع الاعتراف بأهميتها في مواجهة مشاريع تهويد القدس وتهجير سكانها وتدمير ما يعبر عنهم من مقدساتٍ دينيةٍ، فالقضية وطنيةٌ ذات أبعادٍ نضاليةٍ وليست فقط ذات إطارٍ دينيٍ متوارثٍ فحسب.
صفقة القرن بكل إطارها الدعائي الذي يحاول من خلاله الرئيس الأمريكي -المتهم بإساءة استخدام السلطة- ترامب، ورئيس الوزراء الصهيوني -المتهم بالفساد- نتنياهو، التغطية على أزماتهم السياسية المحلية، تظهر لنا مدى عمالة الكثير من الأنظمة العربية للمشروع الإمبريالي-الصهيوني، ومدى تواطؤ الكثير من قياداتها ودورانها في فلك القيادات الفاسدة الصهيونية المذكورة أعلاه، ناهيك عن إظهار الصفقة لبؤس وضعف بقية القيادات العربية التي تكتفي بالشجب والاستنكار دون اتخاذ أي مواقف عملية تغير من الواقع على الأرض، رغم غليان الشارع العربي ورفضه لتصفية القضية الفلسطينية.