– موقع عدالة وتحرر
إن مشروع جذب الاستثمارات في الأردن هو أكبر “فنكوش”، جذب استثمار قائم بجزء غير قليل منه على قطاع الفنادق والمنتجعات وخدمات أخرى من هذا القبيل بالإضافة لتشييد الأبراج كترند عالمي يجب اللحاق به بغض النظر عن صلاحية الامتداد العمودي في عاصمة مكتظة بشوارع ضيقة وبنى تحتية محدودة القدرة الاستيعابية، بل إن بعض هذه المشاريع فشل في إتمام مرحلة البناء وتوقف قبل اكتماله. النقطة الأهم في هذا السياق هو أن هذه الاستثمارات تخلق وظائف برواتب جيدة في مرحلة الإنشاء فقط مقابل الكثير من الإعفاءات الضريبية التي تتحملها خزينة الدولة، أما في مرحلة التشغيل فمعظم الوظائف التي توفرها هذه المشاريع هي وظائف دنيا برواتب تدور حول الحد الأدنى للأجور، أي أنَّ المشروع يفقد جدواه من ناحية التوظيف لنا كأردنيين بمجرد تشغيله غالبًا. وهذه الإعفاءات لا تترافق مع اشتراط استخدام المنتجات الأردنية في حال توافرها، فما الفائدة من إعفاء أثاث فندق من الضرائب علمًا بأنه سيستورده من إسبانيا، فلا خزينة الدولة استفادت من الرسوم الجمركية والضرائب ولا المعامل الأردنية انتفعت بتشغيلها!
فكرة أن نتحول إلى مركز مالي هو “فنكوش”، نموذج لندن ليس لنا فنحن لم نكن يومًا مركزًا استعماريًا لنُمنح هذا الدور الذي مُنِحته بريطانيا، بل كنا مُستعمَرين وأظنَّ أن موقعنا في النظام العالمي مرتبط بهذه الحقيقة. نحن لا نصلح كميناء تجاري عالمي فالستة وعشرين كيلومتر من الحدود على البحر الأحمر لا تؤهلنا لذلك، ثم على أية حال بينما كانت لندن تلعب دور المركز المالي كانت ”مانشستر” وإلى مرحلة قريبة تُصنِّع بكفاءة. على صائغي السياسات أن يستوعبوا أن الأردن ليس بريطانيا وعمان ليست لندن.
عندما نتحدث عن التحول من مشروع الفنكوش الفاشل القائم على جذب استثمارات وهمية إلى مشروع دولة الإنتاج نحن بالطبع لا نتحدث عن خلق دولة صناعية تتفوق على جودة الصناعة الألمانية أو تفوق التوسع الصيني المذهل جودة وكلفة وانتشارًا، نحن دولة تسعة مليون ومساحتنا أقل من مئة ألف كيلومتر مربع، ندرك هذا ونتحدث ضمن ممكنات هذا الواقع، إن أي مشروع إنتاجي يعتمد على ثلاث عوامل أساسية: قوة العمل وتكنولوجيا الإنتاج ونقل المنتج وإيصاله للمستهلك النهائي.
وإن أي مشروع إنقاذ مستعجل يجب أن يبدأ من عوامل متوافرة، بالطبع نحن لا نمتلك تكنولوجيا متقدمة، إلا إذا كان مفهوم جماعتنا عن التكنولوجيا وامتلاكها هو إدخال كمبيوترات بانتيوم 4 على المدارس وافتتاح فرع IT للتوجيهي قبل سنوات، ونحن لا نمتلك شبكة قطارات تربط المحافظات ببعضها وتيسر نقل البضائع والعمال داخل الدولة وهذا ما يجب أن نوفره لكسر مركزية عمان في أي مشروع تنموي حقيقي قد يحدث. نملك قوة عمل معقولة بحاجة لتدريب وتأهيل من الممكن تحصيله بطرق قصيرة نسبيًا سواء كان ذلك لاحقًا أو سابقًا للدراسة الجامعية ذات الخطط التي تستنزف أربع أو خمس سنوات من عمر الإنسان وكثيرًا ما تكون بعيدة عن المهارات التي يجب أن يكتسبها الإنسان لكسب عيشه الآن وهنا.
إن خطة إنتاج تدعمها الدولة هدفها الأساسي وضع الحجر الأول للاستقلال الاقتصادي والتشغيل هي ما يمكن أن يكون مخرجًا للأزمة بشرط خفض كلف الطاقة على الإنتاج الصناعي وتقليل الجمارك على مدخلات الإنتاج ورفعها على المنتجات الجاهزة المستوردة في حال توافر بديل محلي، فهذا ما يستحق الدعم والإعفاءات وليس الفنادق والمنتجعات. لكن ماذا ننتج بتكنولوجيا وقوة عمل كالتي نمتلكها، بكل واقعية وبدون أي سخرية أن نبدأ من العودة لإنتاج أبسط السلع التي صرنا نستوردها، نحن الآن نستورد كل شيء: ملاقط الغسيل والقداحات والمحافظ والشنط ومواد التنظيف ومستحضرات التجميل الرخيصة والعطور المقلدة وأقلام الرصاص وتنكات المياه فوق أسطح بيوتنا والقمصان الكاروهات وبنطلونات الجينز وبسكوت الشاي، هذا كله وكثير مثله لا يحتاج لتكنولوجيا معقدة واتفقنا منذ البداية أننا لا نملك خطة لمنافسة الإنتاج الألماني أو الصيني في السوق العالمية، هذه السلع وبمجرد منع استيرادها أو فرض جمارك مرتفعة على مثيلاتها من السلع مما ننتجه سوف تجد سوقًا مضمونًا بالإضافة إلى ما يمكن تصديره مما يؤدي إلى أن تنتشر هذه الصناعات الصغيرة التي اختفت خلال العقود الماضية بحكم سياسات الفنكوش.
ولتطوير الصناعة لقطاعات أخرى أكثر جدوى يجب أن نبدأ من الصناعة القائمة على التجميع بحيث تستورد الأجزاء التي تتضمن تكنولوجيا عالية، تضمن التشغيل لمواطنيك وتكتسب التكنولوجيا عبر الوقت، لعلنا نصل يومًا ما لشيء شبيه بتجربة مصنع سيارات “إيران خودرو” الذي يوظف عشرات الآلاف. طريق آخر مهم آخر هو أن تدعم الدولة تعاونيات زراعية تتكفل بجميع مراحل الإنتاج من زراعة الأرض إلى نقل المحصول وحتى بيعه في السوق المركزي أو حتى للمستهلك النهائي متجاوزًا كل الحلقات الوسيطة الكثيرة التي تضمن ربحًا وافرًا وافيًا لجميع السماسرة وتضمن الفقر لصغار المزارعين.
إن الدنيا تقوم ولا تقعد وتتشكل لوبيات ضغط على الدولة إذا فُقدت خمسمئة وظيفة في مصنع في دولة تعدادها ثمانون مليونًا كألمانيا عقب قرار سياسي بوقف صفقة أسلحة مع السعودية مثلًا، أما نحن فحصل تفكيك كامل لقطاعي الصناعة والزراعة تحت إدراة قل نظيرها في السوء والتبعية والفساد، وصرنا وبكل وقاحة نُلام ونُقرع ليلًا نهارًا لماذا لا نقبل بالاكتفاء بالعمل في تعبئة السيارات بالوقود وتطوير مهارة الإصبع السبابة بالضغط على فرد الكازية.
أي وقاحة يمتلكها من يدعو الناس للعمل بمهن لا تناسب مؤهلاتهم ولا تضمن تطورًا وترقيًا اجتماعيًا لمن يعمل بها وبحد شهري أدنى من الراتب بالكاد يكفي أسبوعًا أو اثنين منه، متناسين أن العمل حتى بالقطاعات الخدمية التي توفر دخلًا جيدًا ووظائف محترمة هو تابع ولاحق لفكرة الإنتاج، فالخدمات تقدم للمنتجين ليقدموا جزءًا من ناتج عملهم لمزود الخدمة فإذا كان الجميع يعمل في قطاع الخدمات فمن ينتج؟
ولنتذكر أن اتهام الناس بالكسل وعدم قبولهم للعمل كعبيد بأشغال شاقة وأجور متدنية يأتي في نفس الوقت الذي يدور فيه في مناطق عديدة في العالم فكرة طرح راتب بحد أدنى لكل إنسان سواء كان يعمل أو لا، وفكرة راتب شهري لكل إنسان لم تعد فكرة مثالية أو خارج دائرة نقاش صناع القرار في العالم.
نحن نعرف أن من فكك المصانع وأنهك القطاع الزراعي هم نفسهم من تساهل مع قطاع البنوك ومن يفرض تسهيلات وإعفاءات لكبار الأثرياء، بالأحرى هم هم، يحتكرون السلطة والثروة معًا، ونحن نعلم أن مقدار الدين الداخلي يفوق 15 مليار دينار أردني وأقل منها بقليل هو الدين الخارجي. ونفهم أن ما حصل في قانون الضريبة الأخير بعدم رفع نسبة الضريبة على البنوك هو توفير سيولة مالية لهم ليقوموا بإقراضها لنا كدين داخلي على الدولة، أي أننا ببساطة يا سادة نقترض من البنوك بفوائد ما كان يجب أن نُحصله منهم كضرائب!
إن إغلاق قطعة أرض وتوفير ميزانية قائمة على جباية مصدرها جمارك السيارات وضرائب الدخان والمحروقات بالتأكيد ليس مشروع دولة، هذه نصبة، ولا يمكن لأي مجتمع بشري أن يقبل بهذا وإن صبر عليه لفترة بانتظار الانفراجة فإنه لن يصبر بعد أن يرى بأنه لا ضوء في آخر النفق وأننا في حفرة لا قرار لها، وكلما قالوا لنا أننا مشينا خطوة للأمام نفهم ضمنًا أننا عمقنا قبرنا بأيدينا. وضعنا ليس منعزلًا عن القرار السياسي، ومن انتهج هذا النهج الاقتصادي الذي انعكس على شكل احتقان اجتماعي هو من حدد موقفنا السياسي الخارجي، وقد تبين جيدًا أن محور تحالفاتنا الذي اختاره النظام السياسي –على غير إرادتنا ورغمًا عنها– قد سحب السيفون عليهم، لم يكن تحالفًا يومًا بل تبعية وانتهى دورنا بالنسبة لهم، أما نحن كشعب فلدينا رأي آخر بكل تأكيد لكل ما يحاك لهذه المنطقة وسنقاتل يعني سنقاتل.
على أية حال لتكتمل المهزلة على أحدهم الآن أن يخرج ليقول إن كل تلك المشاكل يمكن حلها إذا استطعنا أن نجيب على سؤال جوهري: كم عدد الملائكة الذي يمكن يقفوا على رأس الدبوس؟ فهذا النقاش وأشباهه يدور دوماً في مدينة ستسقط بيد أعدائها فجر غدٍ، “فحينما اشتد أوار القصف في مدينتي/ تكاثر الصلاة والبغاء”.