– موقع عدالة وتحرر
تثير القضايا المتعلقة بالعنف ضد المرأة الكثير من الزوابع التي ما تلبث أن تهدأ لتخلف وراءها رواسب تطفو على السطح فقط عندما تظهر قضايا جديدة تظهر حجم العنف المرتكب بحق النساء، فيما يبقى الإطار الاجتماعي لقضية المرأة خامدًا، بحكم عوامل عديدة تسهم في تضييق نطاق تناول هذا الإطار أو السعي من أجل تغييره.
“السلطة الرمزية لا يمكن أن تمارس إلا بمساهمة من تمارس عليهم”
بيير بورديو-الهيمنة الذكورية
تحاول فلسفة ما بعد الحداثة افتضاح العنف الرمزي الممارس ضد المرأة عبر تذويتها (أي جعلها ذاتية فردية) كما يقول جوزيف مسعد، فهي كائن ينبغي له أن يكون رشيقًا، جميلًا ومغريًا، ومحفزًا لمشاعر الهيمنة (السلطة) الذكورية نتيجة ذلك. لكن هذا التحليل يتجاوز التكوين الاجتماعي وروابط إرساء علاقات القوة في المجتمع، وهو من الأشياء التي تميز ما بعد الحداثة وسياقاتها المتخيلة المتجاوزة!
تنشأ علاقات القوة وتنمّى في إطار تطور المجتمع والتغيرات التي تلحق به، فهي غير منفصلة تاريخيًا أو طبقيًا أو ثقافيًا عن الإطار العام للمجتمع، وعليه فإنها تتأثر بشكل الممارسات الثقافية والسياسية والاقتصادية فيه، ففي عالم الاقتصاد النيوليبرالي اليوم مثلًا أصبح البحث عن تحقيق الذات هاجسًا فرديًا، يتجاوز قضية المرأة في العدالة والمساواة نحو تشييء المرأة وجعل أنوثتها أحد مكتسبات الحقبة النيوليبرالية التي يتم التفاخر بها، والتي يتم التسويق لها عبر رطانة استقلال المرأة (strong, independent woman) وتحقيقها لذاتها، بغض النظر عن أي سياق اجتماعي «أسري»!
لا تختلف هذه الأنماط الما بعد حداثية أو النيوليبرالية في تنميطها للمرأة عن الهيمنة الذكورية التي اعتادت أن تعلن عن نفسها بفجاجة، فحل قضية المرأة لا يتم عبر تغيير «الأسياد»، أو إدخال إصلاحات على الإطار الاجتماعي للقضية، بل عبر تغيير جذري في شكل علاقات القوة في المجتمع، والذي ينشأ حكمًا عن نضال اجتماعي في قضية المرأة وسواها من القضايا المشكلة لعلاقات القوة داخل المجتمع.
لمن تترك القضية؟
كالعديد من مجالات وأطر عمل المجتمع المدني، تنشط منظمات الدفاع عن حقوق المرأة في التصدي لقضية المرأة ورفع لوائها، في ظل صمت القوى الاجتماعية والوطنية التي أصبحت تخلي مكانها لشكل «معولم» من المنظمات تتلقى تمويلها وأفكارها (أحيانًا) من إطار اجتماعي معولم هو الآخر، وهو ما يهيئ الساحة لنشر خطابات ثقافوية معادية للمجتمع الأردني، عبر ديباجات مستقاة من «نضالات» مجتمعات أخرى في قضية المرأة وسواها، وفي تطبيق فج للرؤية الاستشراقية الحديثة.
العديد من هذه المنظمات، وما ينبثق عنها، كان من زج الغارمات الأردنيات في السجون، عبر ادعاءات تمكين المرأة التي تستخدم كوسيلة لرهن مستقبل المرأة ومستقبل عائلتها بيد دائن جشع. هنا تتضح المفارقة في تحطيم قدرة المرأة على المساهمة في زيادة عوائد التنمية على قدر المساواة مع الرجل، من قبل من يدّعي السعي لتمكين المرأة وتعزيز استقلالها الاقتصادي والاجتماعي، بينما تسعى منظمات أخرى لاستدخال قضايا لا تمت بصلة للواقع الاجتماعي، في محاولة لخلق خطاب نسوي مهيمن من ناحية ومرفوض اجتماعيًا من ناحية أخرى، كمثال واضح على القفز في الهواء الذي تمارسه هذه الجهات التي تمتلك الترف لذلك! فهي في دفاعها عن المرأة لا تطرح سوى رغبات طبقة مترفة تستثمر عذابات النساء الفقيرات وقضاياهن -المرتبطة ارتباطًا عضويًا بطبيعة التركيب الاجتماعي الاقتصادي- في ترويج خطاب ثقافوي متغربن ينظر إلى مجتمعات دولة هشة وضعيفة اقتصاديًا وأغلب سكانها من الفقراء، مثل الأردن، كما لو أنه حي من الأحياء الباذخة في باريس. وتمارس جلدًا للذات، وتنظر إلى السطح فقط من دون أن تضع يدها على الجذور الاقتصادية والاجتماعية للمشاكل. هذا هو المعنى الحقيقي لاجترار الماء من السراب، وتعميم الرغبات الشخصية على الهم الجمعي.