– موقع عدالة وتحرر
لعل البنوك هي أحد أكبر المستفيدين دائمًا سواء في الأوضاع الطبيعية أو من الأزمات. خذ مثلًا الأردن، تبلغ مديونيتها 40 مليار دولار أكثر من نصفها للبنوك التجارية المحلية، فيما يذهب الباقي إلى مؤسسات الإقراض الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. يضطر أي بلد مدين إلى الاقتراض داخليًا وخارجيًا، لغايات تتعلق بالحفاظ على الاستقرار النقدي، إذ ينبغي أن تتوازى وتتقارب العملة المحلية بالعملة الصعبة. غير أن فوائد القروض الداخلية، بالدينار الأردني، أكبر من القروض الخارجية، بالدولار. وهنا تلعب البنوك التجارية المحلية لعبة قذرة حيث تقترض من الخارج بفائدة قليلة ثم تقرضها للحكومة بفائدة أعلى. هكذا ببساطة تراكم أرباحًا ليست سوى مضاربة مالية، بلا أية مدخلات إنتاج.
هذا الشكل المالي يهيمن على العالم منذ صعود النموذج النيوليبرالي. فقد بات النظام الرأسمالي يتربح من القروض وفوائدها، من الأسواق المالية والمضاربات والبورصات وبيع المال بالمال، فيما قل الاسثمار في الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، وعُمم هذا النموذج على بقية بلدان العالم بما يكون طرفين اثنين: مقرض ومدين، مستفيد ومتضرر، باعث الأموال من قماقمها وخادم الدين الأبدي. إنها الرأسمالية المالية! وعندما يتوجه نظام في دولة من دول العالم الثالث نحو اقتصاد إنتاجي هدفه الأول الاعتماد على الذات، والتخفيف من صدمات الارتباط بالنظام المالي العالمي، وتوزيع الثروة قدر الإمكان بما يشمله ذلك من تخفيف الفقر والبطالة وتعميم نظام الرعاية الاجتماعية في التعليم والصحة والبنية التحتية، عندما تتوجه دولة إلى تطبيق نظام اشتراكي يقف موقفًا جذريًا من النموذج الرأسمالي في أميركا وأوربا الغربية، موقفًا صديقًا للبيئة ولثقافة الناس، ولكل ما يحد من الفوارق الطبقية في المجتمع ويقلل من الثقافة الاستهلاكية التي باتت تغزو العالم بلا مبرر سوى مزيد من الربح وتركيز الثروة في يد أقل نسبة ممكنة من المتوحشين، فإنها تحارب مباشرة ويتم شيطنتها والانقلاب عليها وتدمير نظامها، كما حدث مؤخرًا في بوليفيا، وقبلها في كثير من دول أميركا اللاتينية.
والآن في ظل جائحة كورنا، تتربح البنوك أيضًا، وتزداد المضاربات في الأسواق المالية، فيما تطرح مؤسسات الإقراض الدولية برامج جديدة هدفها الأول مراكمة الأرباح على حساب الدول التي ستستدين جراء الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم عميقًا، وفرض مزيد من الهيمنة عليها عبر التحكم في سياساتها. ولننظر هنا إلى البنوك في الأردن، كيف ترمي دينارًا واحدًا في صندوق “همة وطن” ثم تربح لقاءه عشرات الدنانير، كيف تحصل على تسهيلات من البنك المركزي بمئات الملايين ثم ترمي جميعها ما لا يزيد عن 30 مليونًا في صندوق همة وطن! وتبرعاتها هذه ستخصم من دخلها الخاضع للضريبة، وربما يصدر لاحقًا قرار بإعفاء الشركات من ضريبة الدخل! هذا عدا عن القيمة المعنوية التي تضفيها عليها التبرعات في نظر المجتمع، وما تحاوله بذلك من تبييض وجهها القبيح.
لنأخذ الإجراءات التي قام بها البنك المركزي. لقد خفض الاحتياطي الإلزامي للبنوك التجارية من 7% إلى 5% بما يسمح بتوفير سيولة قدرها مليار و50 مليون دينار، ستستغلها بمزيد من الأرباح. طَرح برنامجًا لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة قوامه 500 مليون دينار، توزع على البنوك التي تقرضه بفائدة سقفها 2%، حيث 85% من هذا المبلغ (500 مليون) مضمون من الشركة الأردنية لضمان القروض التي يملك البنك المركزي 45% منها، أي في حال تعثرت أية شركة عن السداد للبنك الدائن فإن الشركة الأردنية لضمان القروض تتكفل بالدفع، وتقسط المبلغ على الجهة المدينة. ثم جاء قرار الدفاع رقم 9، الذي وضع برنامج تضامن 1 وبرنامج تضامن 2 وبرنامجًا ثالثًا لدعم عمال المياومة والعاملين لحسابهم الخاص، حيث من خلال البرنامجين الأولين تدعم الشركات التي توقفت عن العمل بشكل كلي أو شبه كلي من خلال الضمان الاجتماعي، إذ يعطي راتب بدل تعطل مؤقت قدره 50% للموظفين المشتركين مسبقًا في الضمان، ومبلغًا قدره 150 دينارًا لغير المشتركين، مقابل أن تساهم الشركة في البرنامج الأول بما نسبته 20% من الأجر المشمول، وفي البرنامج الثاني بمبلغ 50 دينار من المبلغ المدفوع للعامل. لكن إذا أثبتت الشركة عجزها عن دفع المساهمة المطلوبة منها في أجور بدل التعطل المؤقت في البرنامجين السابقين، بإمكانها الاقتراض من برنامج البنك المركزي لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولن تدفع فائدة 2% للبنوك لأن الحكومة هي من تتكفل بها من خلال الخزينة العامة! هذا توطؤ واضح لتربيح البنوك على حساب المتعثرين. لماذا لا تُجبر البنوك على إقراض مبالغ هذا البرنامج (500 مليون دينار!) بدون فوائد؟ لماذا لا يتكفل البنك المركزي بإقراضها مباشرة للشركات؟ ولماذا لا يجوز له الإقراض مباشرة إلا بوجود المصارف التي تلعب وسيطًا وسمسارًا، ثم حين تعجز أية جهة عن الدفع يصبح جائزًا للبنك المركزي أن يتدخل عبر الشركة الأردنية لضمان القروض؟ إنه تنفيع وتربيح على حساب الاقتصاد الحقيقي، واستثمار للكوراث في مزيد من الربح على حساب معاناة الشعوب
علاوة على ذلك، هناك برنامج سابق هو برنامج دعم القطاعات الاقتصادية التنموي، وقد تم تخفيض فوائده من 1-1.75% إلى 0.5-1%، فيما تقرض البنوك من خلاله بفوائد قدرها 3-5%! وهكذا يصدر قرار واضح وقطعي من البنك المركزي بتخفيض فوائد برامجه على البنوك التجارية، فيما لا يتخد أي إجراء قانوني يلزمها بتخفيض فوائدها على المدينين. نسمع فقط في المقابلات التلفزيونية لممثلي البنك المركزي مقولات على شاكلة: نتأمل من البنوك أن تخفض الفوائد إلى كذا وكذا. يا سلام! هذا أمل الأبالسة بالجنة، وأمل الشمس أن تطلع في الليل.
إن ما تم اتخاذه في قرار الدفاع رقم 9 هو إجبار صغار الموظفين في القطاع العام على الدفع عبر اقتطاعات تعد كبيرة نسبة إلى رواتبهم، وهو تعدٍّ على أموالنا في الضمان الاجتماعي عبر إنهاك صندوق بدل التعطل وإجباره على الدفع في ما يفترض أنه خارج مهماته، أو عبر الدفع من فوائد التأخيرات والغرامات التي تقاضاها الضمان الاجتماعي خلال السنوات الثلاثة الماضية، هذا إضافة إلى قانون الدفاع رقم 1 الذي استهدف تأمينات بدل الشيخوخة للعاملين. غير أن كل ما تم اقتطاعه من الموظفين، وما تم أخذه من الضمان الاجتماعي، لن يتجاوز في أفضل أحواله مليار دينار، وهي غير كافية للخروج من الآثار الاقتصادية لأزمة كورنا التي تحتاج إلى مليارات لن تجدها الحكومة في جيوبنا حتمًا، ولا يصح أن تبحث عن الباقي بمزيد من القروض التي أول من يستفيد منها البنوك التجارية محليًا، ومؤسسات الإقراض الدولية خارجيًا، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين، عدا عن تكلفة مزيد من التبعية السياسية والاقتصادية جراء ذلك. مزيد من الديون، يعني مزيدًا من الإجراءات التقشفية التي تنهك الغالبية الفقيرة، وتدمر حياة الملايين، وتسحب الدولة أكثر فأكثر من دورها الاجتماعي، وتؤدي إلى استنزاف الاقتصاد الذي هو مستنزف وضعيف أصلًا.
إننا حين ننظر إلى التكافل الذي تتحدث عنه الدولة، نجد أنه إرغام الفقير على دفع نسبة كبيرة من راتبه، فيما تتبرع البنوك والشركات الكبرى بملء إرادتها فتاتًا، أو أقل من الفتات، وتستمر الدولة بشكرها ومغازلتها على ذلك. البنوك التي نفعها البنك المركزي من الأزمة، والتي قبلها تتنفع عبر اقتراضات الحكومة منها، ينبغي أن يصدر قرار يجبرها على الدفع الحقيقي الإلزامي، دفع بمئات الملايين وبالمليارات وليس فتاتًا بالطبع! وإلا تم الاقتراض منها مجددًا وبفوائد عالية، وعلى حسابنا. أيضًا، كبرى الشركات وكبار الأثرياء، هؤلاء يجب أن يدفعوا جبرًا وأمرًا، لا طلبًا واستجداءً. لقد استفادوا من التحول الاقتصادي على مدار عقود، ومن هيمنة النموذج النيوليبرالي على حسابنا، والآن يرمون بضع عشرات الملايين في صندوق “همة وطن” الذي لا يتجاوز كل ما فيه ثلاثة أيام من المصاريف الجارية التي تبلغ شهريًا 700 مليون دينار!
لا نتوقع من التحالف الطبقي القائم سوى مزيد من التغول علينا، فالسلطة والمال يدان متحدتان، بل إن من في السلطة هو صاحب المال دائمًا، وانحيازات “وزراء البنوك” واضحة ومعروفة في محاباتها لأبناء طبقتها، الذين يمثلونهم. لكن ضرب الفقراء يعزز من الأزمة، ويقلل من الطلب على السلع، ومن إيرادات الدولة نتيجةً لذلك، ويزيد من عسر الشركات الصغيرة والمتوسطة أو ربما إلى إفلاسها. هذا سيؤدي إلى زيادة نسب الفقر، والبطالة، وإلى طحن حياة الكثيرين. فهي حلقة تنهار إذا سقطت إحدى زرداتها.
والحل موجود لدى البنوك، وكبرى الشركات، والأثرياء. إذن، فليدفعوا رغمًا عن أنوفهم.