ثلاث أزمات

– محمد الكسواني

هزت أزمتان شاملتان العالم بعمق في عامي 1929 و 2008، وإرهاصات أزمة العام 2020 بدأت الآن ولم نعشها بشكل حقيقي بعد، أي أن أول الرقص ‏حنجلة كما يقال. لربما كانت الاستجابة مختلفة في كل مرة ولكن الهدف واحد؛ هو الحفاظ على النظام ‏الرأسمالي القائم واستدامته.

الكساد العظيم 1929: الولايات المتحدة أنموذجًا

بدأ الكساد في أوكتوبر 1929 وانتهى تمامًا عام 1941. عجزت الولايات المتحدة عن ‏تصريف فائض الإنتاج، فتراكمت البضائع في الأسواق والمعامل. ترافق ذلك مع انخفاض في الطلب، ‏وضعف في السيولة، وانهيارات في البورصة الأمريكية، مما أدى إلى إغلاق كثير من معامل الإنتاج وقطاعات ‏المواد الأولية الداخلة في عمليات التصنيع، وطرد الموظفين من أعمالهم. هكذا وصلت البطالة حينها في ‏الولايات المتحدة الأمريكية إلى 25%، وانتشرت الأزمة في دول العالم تباعًا.

‏انتخب روزفلت عام 1932، وحالما استلم الرئاسة بداية 1933 شرع بإجراءات “كنزية” اقتصاديًا، ولم يكن ‏ذلك لأسباب نظرية تتعلق بالتخلي عن النهج الليبرالي كنظرية وإنما لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. كان ‏هناك خوف من التمدد الشيوعي في ظل الأزمة التي تفعلت خلالها اتحادات العمال، وتشكلت اتحادات ‏أخرى من قبل العمال المتضررين، فانضم إليها الملايين للضغط على الحكومة، مما أثر ‏على ارتقاع شعبية الأحزاب الاشتراكية في الولايات المتحدة وكذلك الحزب الشيوعي الأمريكي.

‏وتحت الخوف من شبح الشيوعية الذي اجتاح أوربا من قبل ووحد البابا والقيصر ضده، قام الرئيس ‏الأمريكي حينها بعقد اتفاقين: الأول مع أصحاب رؤوس الأموال الذين ينتمي هو ورئاسته إليهم طبقيًا، فقد كان ‏هناك ضرورة لاتخاذ مجموعة من الإجراءات لإنقاذ النظام الرأسمالي الذي يديرونه، وإنقاذ رؤوسهم في ‏حال نجح أصحاب الطروحات الثورية الجذرية بحشد الناس وتنظيمهم. أما الثاني فكان مع الاتحادات ‏العمالية والاشتراكيين وجبهات الضغط الأخرى، اتفق معهم عبرها على أن يقوم بتنفيذ مجموعة من الإجراءات مقابل دعمه وتخفيف الضغط عليه ‏من القوى الشعبية، فتم التالي:
1. أنشئ الضمان الاجتماعي الذي لم يكن موجودًا قبل ذلك، وتم من خلاله دفع تقاعدات لكل من جاوز ‏الخامسة والستين.
2. أنشئ نظام تعويضات للعاطلين عن العمل، إذ لم يكن موجود قبل ذلك أيضًا، وتم بموجبه صرف شيك ‏أسبوعي لهم.
3. أنشئت مشاريع حكومية كبرى لغايات توظيف العاطلين عن العمل، وأُمّن من خلالها ما يقارب ‏اثنتا عشرة مليون وظيفة في فترة كان عدد سكان الولايات المتحدة خلالها قرابة المئة وعشرين مليون.
4. رفعت الضرائب على الأثرياء وأخذت منهم قروض لتوفير السيولة اللازمة لتنفيذ المشاريع الثلاثة السابقة.

الأزمة المالية العالمية 2008

في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته ترافق دخول الحوسبة لقطاع الأعمال مع عودة الإجراءات ‏الرأسمالية لما قبل مرحلة الكساد العظيم (عهد ريجان-تاتشر)، ما أثر على رواتب الموظفين ومستحقاتهم، فمنذ ذلك الحين وهي بين ‏ثبات وانخفاض مقارنة بالقدرة على الصرف والتضخم. وقد ضمنت العودة لهذه السياسيات، والتلاعب ‏بالأسواق المالية خلال ثلاثة إلى أربعة عقود حدوث الأزمة المالية العالمية عام 2008.

لم يكن شبح الشيوعية حاضرًا ولم يكن عالمًا متعدد الأقطاب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تكن هناك جهة تلتقف السقوط ‏الرأسمالي، لهذا كان التعاطي مختلفًا هذه المرة، فبدلًا من دعم المتضررين تقرر دعم من أحدث الضرر، وتم ‏ذلك عبر عملية محاكاة للدورة الرأسمالية وتدفق الأموال، حيث تم توفير الأموال مجددًا للشركات ‏والبنوك، كخطة إنقاذ أو كقروض، والعجيب أنك قد تمنح البنك قرضًا بدون فائدة ثم تستدينه الحكومة منه ‏بفوائد أو يستدينه المتضررون من الأزمة-المواطنون!

الرأسمالية لا تتماشى مع فكرة السكون بل إنها لا تتماشى مع السرعة الثابتة، فإذا كنت تنتج مليون قطعة ‏من سلعة ما يجب أن تنتج مليونين بعد خمس سنوات، يجب أن تتسارع وإلا ستموت. الأمر لا علاقة له ‏بحاجات البشر، فإن لم تكن للناس حاجة اخلق هذه الحاجة بوهم الإعلان والإعلام وصورة الحياة المتخيلة ‏التي ستعلق بالأذهان ضمن أدوات هيمنتك.‏ والنتيجة لهذا معروفة؛ هزة اقتصادية كبرى كل سبع إلى إحدى عشرة سنة، وأخرى أصغر كل حوالي أربع ‏سنوات، وأزمات عالمية شاملة وعميقة كل بضعة عقود، والمقابل بسيط؛ فقط تدمير حياة نسبة من الناس ‏وتشريد البعض وتجويع البعض في حالات أخرى.

لا بأس! ففكرة الركود الاقتصادي أصبحت فكرة مقبولة بل إنهم يهيؤونك لها ببساطة ووقاحة؛ انتبهوا نتوقع ركودًا ‏خلال العامين القادمين. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني بأنه عليكم أن تحضروا أنفسكم لرواتب أقل وسلع ‏بنفس السعر أو أغلى وتسريح من الوظائف، وبالطبع من ينفق راتبه شهرًا بشهر سواء كان عاملًا في ‏الأردن يتقاضى أربعمئة دينار أو مثله في الولايات المتحدة يتقاضى ألفي دولار، فالنتيجة واحدة؛ أنه سيُشرد! ‏ومن يملك المال سينحني للأزمة التي هو سببها، بينما لا تملك أن تنحني لها، ليس لأنك تملك عنفوانًا ‏وأنفة، بل لأن فقرات ظهرك تصلبت بينما أنت تعمل ليراكم من ينحني للأزمات ثروته على حسابك.

كورونا 2020‏

أزمة 2020 ليست أزمة كورونا حسب، بل هي أزمة تراكم السياسات المشوهة بين عامي 2008 و 2020. ‏ستؤدي الأزمة الحالية إلى تغيرات بلا شك، ونحن الآن في بدايتها والمعطيات القائمة تؤشر إلى أن ‏القادم أشد وطأة. لا يمكننا أن نتنبأ بما ستؤول إليه الأمور فهذه مهمة العرافات، لكن بإمكاننا أن نحاول ‏التنبؤ بالاتجاهات المحتملة ضمن مفهوم التحديد المنخفض في التاريخ: أي أن الواقع الحالي يفتح احتمالات ‏محددة، فليس ثمة حتمية محددة ولا خيارات جامحة تخرج من رحم الخيال. معطيات الواقع ‏الحالي هي من ستحدد القادم ضمن خيارات محدودة تدفع باتجاهها فاعلية الإنسان ضمن حركة التاريخ، ‏فلا يمكننا القول إن جائحة الكورونا ضمن معطياتها الحالية ستؤدي إلى تفتت النظام العالمي برمته ‏وبناء نظام عالمي آخر اشتراكي، واحتمالية أن تستمر الأمور على ما كانت عليه قبل الهزات الكبرى هو ‏أمر مستبعد، قد يكون النظام القادم أكثر عدالة أو أكثر استغلالًا وطحنًا للمسحوقين.

الخطط القائمة حاليًا في عدد من الدول التي تملك فوائضَ قيمة هو بصرف الرواتب وتعويضات البطالة ودعم ‏الشركات الخاصة. وربما نشهد خطوات أخرى، فلا جديد لدى العالم إذ كلما اشتدت الأزمة لجؤوا لخطوات ‏اشتراكية مرحلية تتجاوزها، هذا هو تكيف الرأسمالية!

التغيير ممكن ولكن من يرسم السياسات بعد الأزمة، هل هو نفس من رسمها قبل الأزمة بذات مصالحهم ‏وانتماءاتهم الطبقية؟ هؤلاء إن رسموا سياسة جديدة ما فستكون لتحصين أنفسهم أكثر في المرات القادمة، ‏وهذه المرة على الجموع ألا تدعهم يفعلوا ذلك.

فتحت الأزمة بإغلاقها المتفاوت بين الكلي والجزئي لحركة الطيران وحركة الشحن ومعامل الإنتاج ‏الصناعي عودة مفهوم الاكتفاء الذاتي داخل القطر الواحد، وهذا بدوره يفتح سؤال ما إذا كانت الدولة تملك مقومات ‏اكتفاء ذاتي، وهل هناك ضرروة لتجاوز ترسيمات حدود الحربين العالميتين وما ترتب عليهما من تراكم ‏هويات وطنية لدول لا يستطيع بعضها أن يحقق أدنى حد من الاكتفاء الذاتي لمحدودية موارده المادية ‏والبشرية وثرواته الطبيعية في بقعته الجغرافية.‏

محليًّا

إن النظرة الرومانسية لبعض استجابات الحكومة السريعة توقيتًا والمتخبطة وذات النزعة التجريبية ‏تطبيقًا هي نظرة غير واقعية، فلا تنسى أن هؤلاء هم من نهبوك ابتداءً، وهم من سلموك للشركات ‏الرأسمالية، وهم أصحابها أو أصحاب أصحابها بحد أدنى، فمن تركك لفقرك الذي كان هو سببه لا يمد يده ‏الآن إلا لأن البلل وصل ذقن الجميع، ولا ملجأ أو مهرب من الجائحة الصحية فهي عمت جميع دول ‏العالم. المعادلة بسيطة، السيد لا يريد أن يقتل عبده بل هو يريده مطيعًا له، والإقطاعي لا يريد أن يفقد ‏قنه، والرأسمالي لا يريد أن يفقد موظفيه شرط أن تكون أجورهم زهيدة ويعملون كالآلات التي سيستبدلهم ‏بها إن كانت توفر ربحًا أوفر، والدولة كذلك لا تريد أن تفقد شعبها، وإلا فلن يجدوا من يحكموه.

الآن هي مسؤوليتنا! الآن أصبحنا مواطنين ومسؤولين! هم فقط عليهم أن يخبرونا بالإجراءات الأسلم ونحن علينا بدورنا أن نلتزم كشعب بها. الآن ‏أصبح الشعب مجموعة واحدة وليس مجرد أفراد متشظين، وأصبح مسؤولًا أن يتعامل مع وباء خطير مع أنه لم ‏يكن مؤهلًا للديمقراطية قبل شهرين. لا ننكر أن الأزمة أكبر من الجميع، وسنتضرر كما يتضرر غيرنا، ‏وسيصاب بالوباء من يصاب ويموت من يموت، ولكننا لا نريد انهيار كل شيء مرة واحدة، ولا يصح أن ‏تنسل الدولة من مسؤولياتها ويتحمل الشعب المسؤولية وحده، الشعب الذي جُرفت كل نخبه ووضعت العراقيل ‏أمام تكوينه أي قيادات اجتماعية حقيقية تخشى السلطة منافستها.‏

فشل الحظر الشامل هو مسؤولية الحكومة. تخيل أن الحظر كان لأسباب سياسية، هل كان سيسمح لأحد ‏بخرقه؟ فشل تتبع المخالطين منذ البداية هو فشل الحكومة، فالنظام السياسي الذي يمتلك أجهزة أمنية تتتبّع ‏خطوات طالب ابن تسع عشرة سنة انضم لكتلة طلابية تابعة لحزب سياسي معارض، ويعرف نوع سجائره، إذن فليتتبع ‏المخالطين! فشل توزيع الخبز هو فشل الحكومة، وفشل التخطيط من عمان الغربية وعلى مقاسها هو ‏فشلها، وفشل معركة الوعي فشلها أيضًا، فأدوات الهيمنة من تعليم وإذاعات وصحف ومنابر هي ‏بيد الحلف الطبقي الحاكم منذ عقود، والوعي الجمعي بجزء كبير منه هو ابن هذا وابن علاقات الإنتاج.

‏كنا نتمنى لو نجح حظر التجول مع تأمين الناس بمستلزماتهم، والآن نتمنى أن ينجح التباعد الاجتماعي ‏والحظر الجزئي، ونتمنى نجاح أي إجراء ينصح به المختصون في مجال الأوبئة.‎ ‎نتمنى نجاح الآليات ‏بعيدًا عن مراسم الاستعراض والاحتفاء الزائد لمن يقوم بواجبه العادي والطبيعي ويتقاضى لقاءً له راتبًا، ‏صحيح لسنا اليوم في معرض تبادل اللوم، لكن المهم ألا تنسل الدولة من مسؤوليتها الآن أو من مآلات ‏المرحلة فيما بعد -وهو الأهم- لتلقي اللوم على شعب لا يستمع للمواعظ.

‏حكومتك لن تعطيك راتبك أو راتبًا لكل مواطن بصفته كذلك إن امتدت الأزمة، ولا يرجح أن تلزم البنوك ‏ومن أثروا على حساب الشعب بدفع تلك الكلف، فهي من راكمت عبر العقود الثلاثة الماضية دينًا عامًا قدره أربعين مليار ‏دولار، هي من وقعت اتفاقًا بعشر مليارات لدعم الاحتلال الصهيوني، وهي كل ما تعرفه وعشته ‏وأدى لتراجع البنية التحتية، وسوء المواصلات العامة، وتردي قطاعي التعليم والصحة، وإثراء قلة معدودة ‏على حساب شعب بأكمله. الآن ومن أسٍف سنحصد كل هذا، والضمان الاجتماعي لن يستحمل كل مآلالات ‏الأزمة، فقد كان مخصصًا خلال العقدين الأخيرين لشراء أرض المسؤول الفلاني البور وأسهم المستثمر ‏الفلاني الخاسرة، وصار سلة لجمع كل البيض الفاسد.‏

خاتمة

من قال أن الاشتراكية هي أن تنقذ الدولة البنوك والمؤسسات الخاصة وتضخ فيها من ميزانيتها، من قال ‏أصلًا أن الاشتراكية هي أن تملك الدولة وسائل الإنتاج؛ هذه مرحلة نحو الاشتراكية، وهي أن تأمم الدولة ‏أدوات الإنتاج وتنتزعها من أيدي الرأسماليين إلى يدها، ضمن فترة انتقالية تؤول بعدها أدوات الإنتاج إلى العاملين يومًا ما. ‏وحين يكون النمط الاقتصادي الذي تملكه ضمن موقعك الهامشي هو رأسمالية الهوامش، وبُناك الإنتاجية ‏مفككة أصلًا، فالأجدر أن تبدأ مزارعك من الكوميونات الزراعية ومصانعك من التعاونيات.‏ حينما لا تكون لديك بنية إنتاجية قوية أصلًا فليس الحل أن تتجه للإنتاج الرأسمالي ثم تتجاوزه، بإمكانك أن ‏تبدأ ببناء نماذج وإن مصغرة لما هو قادم؛ كيف سنصنع؟ كيف سنزرع؟ من سيمتلك البنوك؟ هل ستكون هناك ‏سوق مالية من أساسه؟ كيف سنستدخل التكنولوجيا على حياتنا كأداة عدالة اجتماعية لا كأداة لمزيد من ‏الاستغلال والابتزاز؟

إن كان علينا واجب فهو ألا نسمح لتوجهات اشتراكية جزئية ومرحلية بيد قيادة رأسمالية أن تمتطي مفهوم ‏العدالة الاجتماعية لتخلص نفسها من أزمتها، ثم تعود لإنتاجها من جديد حينما يصبح الوضع مواتيًا. ‏باختصار، يجب ألا نسمح بامتطائنا وامتطاء مبادئنا التي نؤمن بها، الفرصة الآن للتفكير بشكل الاقتصاد القائم ‏وكيف نتجاوزه، ما الطرح القادم الذي سنقدمه وكيف سنخوض المعركة مع التحالف الطبقي الحاكم هنا ‏وفي كل مكان في هذا العالم، ففي نهاية المطاف عامة الشعب هم المتضرر الأكبر مهما بكى الرأسماليون ‏على خسائرهم.‏

عن عدالة وتحرر

نحو عدالة اجتماعية وتحرر وطني

شاهد أيضاً

عن الزراعة في الأردن: تاريخها القريب وواقعها الحالي

– لوحة الفنانة إسراء صمادي منذ حكم الدولة العثمانية وحتى يومنا هذا لم يتطور قطاع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *